شرق الفرات… العزف على أوتار التصعيد
- updated: 25 يونيو 2020
- |
*مالك الحافظ
لعلّ عملية “مخلب النسر” التي أعلنت عنها تركيا مساء يوم الأحد (14 حزيران) وقامت عبرها بتوجيه ضربات جوية ضد مواقع “حزب العمال الكردستاني” شمالي العراق، هي أبرز تعبير عن تعقيد المشهد في مناطق شمال شرقي سوريا، والذي تتداخل فيه عدة أطراف ومسائل مشتركة.
رغم التعقيد الذي يحكم الشمال السوري، وبالتحديد ملف شرق الفرات (أو مناطق شمال شرقي سوريا)، غير أن تضارب المصالح وصعوبة إيجاد أية مشتركات بين أطراف في هذه الزاوية من المشهد السوري يمنح إمكانية التنبؤ بأن أي تحرك على شاكلة العملية التركية يهدد بتفجير المنطقة ككل، وذلك بالتزامن مع الدعوات الأخيرة للوصول إلى توافق كردي-كردي يؤمن دخول قوات مدعومة من كردستان العراق، يمكن لها أن تمنع أي تصعيد مقبل في محيط المنطقة بين أكراد قوات سوريا الديمقراطية؛ والقوات التركية أو المدعومة من أنقرة خلال الفترة المقبلة.
الولايات المتحدة… مُيّسر الحل ومُعطّله؟
في شهور مضت، كتب السفير الأميركي الأسبق إلى سوريا، روبرت فورد، في إحدى مقالاته، بما معناه أن وقوف واشنطن إلى جانب الأكراد السوريين (يقصد مقاتلي وحدات حماية الشعب (قسد) وذراعها السياسي) سيختفي مع انتهاء تحقيق مشروعها في سوريا، يعني أن عليكم أن تواجهوا لاحقاً من سيتربص بكم لوحدكم، هذا التحذير لم تكن أيام عملية “نبع السلام” التركية بعيدة عنه كثيراً (تشرين الأول 2019)، فمنحت واشنطن ضوءاً أخضراً -آنذاك- للعملية التركية في المناطق الحدودية في شمال شرق سوريا المتشاركة مع تركيا، والتي خلطت الأوراق هناك بل وقلبت الموازين في مشهد الشمال السوري ككل.
يمكن القول أن مرير “نبع السلام” التركية، كانت المرحلة الأولى في خلخلة استقرار لمنطقة بعد إعلان النصر “الإعلامي” على تنظيم “داعش” الإرهابي (آذار 2019)، ولربما تكون المساعي الأخيرة لواشنطن وجهات أخرى في تحقيق “الوحدة الكردية-الكردية” بين أحزاب “الإدارة الذاتية” أو “مسد” من جهة وبين المجلس الوطني الكردي (التي تقول عنه الإدارة الذاتية أنه مدعوم من أنقرة) هو بداية المرحلة الثانية لخلخلة الاستقرار، وها هي الملامح تتضح شيئاً فشيئاً؛ أنقرة تضرب مقرات “حزب العمال الكردستاني” شريك “وحدات حماية الشعب” أو “قسد” وذلك طبعا بحسب الرواية التركية. إذاً فإن تركيا التي من أجلها تدخلت واشنطن لبدء عملية التفاهم الكردي، تنسف إمكانات تثبيت هذا التفاهم.
قبل الخوض في معاني هذا التصعيد وآثاره، فإن من نافل القول أن ذريعة الاحتراب السياسي الكردي-الكردي وحث المساعي لإنهائه؛ هو شماعة أخرى أضافتها القوى المتدخلة في ملف شرق الفرات على -وجه التحديد- إلى قائمة ذرائع استمرار وجودها هناك، فبعد أن كانت محاربة تنظيم “داعش” في الشمال الشرقي من سوريا الشغل الشاغل لكل الأطراف دون استثناء، يبدو أن واشنطن وجدت ملف “التفاهم الكردي” خير وسيلة لذر الرماد في عيون المتتبعين لدورها وواقعية تنفيذ استراتيجيتها في سوريا عموماً و في الشرق منها خصوصاً.
لا يمكن لأي توافق كردي-كردي أن يحل جميع إشكالات شرق الفرات، فمن ناحية فإن المنطقة ليست كردية فقط، هناك مسائل مربكة كثيرة قد يكون من بينها آليات الحكم المحلي وتوزيع العناصر المسلحة لمنع أي اقتتال عرقي على سبيل الافتراض، -ولهذه الجزئيات المهمة شرح يطول لن يكون مكانها في هذا المقال-.
ومن ثم فإن التوافق الكردي لن يكون بديلاً عن ملف المقايضات المفتوح بين روسيا وتركيا في الشمال السوري برمته وبالتأكيد تقف إلى جانبهم الولايات المتحدة في هذا الملف. ناهيك عن غياب تام لأكراد “الإدارة الذاتية” عن العملية السياسية السورية خلال الوقت الحالي.
بالنظر إلى عملية “مخلب النسر” فإنها تشي بالكثير من التطورات التي ستكشف عنها الأيام المقبلة، قد يتمثل من بينها وفق رغبة/رؤية تركية بقطع طريق الإمداد بين أكراد “قسد” وأكراد “العمال الكردستاني”، تمهيداً لعملية قادمة شرق الفرات، وبضوء أخضر أميركي “معتاد”، من خلال البناء على إضعاف “قسد” عبر ضرب خطوط الإمداد ومراكز القوى الخلفية الموجودة بالعراق، ومن ثم الضرب لاحقاً في أماكن تواجدها بشرق الفرات.
رغم الأجواء الإيجابية المعلن عنها في الإعلام خلال الأيام الماضية من قبل “قسد” تعليقاً على الجهود الأميركية في مساعي “الوحدة الكردية” إلا أن تخوفات لدى قياديين في “قسد” تزايدت مؤخراً من إيذانٍ أميركي لتركيا يسمح لها بضرب مناطقهم من جديد “طالما أن التطورات الإيجابية بحسب الرؤية الأميركية لم تتحقق في المنطقة، فلا بد من خلط أوراق جديد يُصلح ميزان القوى هناك وفق ما تريده واشنطن”.
روسيا وإيران و “داعش”
على عجالة؛ لابد من الإشارة إلى باقي الأطراف التي تعزف هي الأخرى على أوتار التصعيد في شرق الفرات. بالتأكيد يأتي في مقدمتهم تنظيم “داعش” الإرهابي، العائد للنشاط مؤخراً وهو ما استغلته كل من قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن وكذلك قوات “قسد” حينما أطلقوا مطلع شهر حزيران الجاري عملية “ردع الإرهاب” ضد أوكار خلايا التنظيم الإرهابي، لكن النتائج لهذه العملية يبدو أنها ستطول “بحسب مقتضيات المصالح”.
رغم إعلان النصر على التنظيم في الشرق السوري، إلا أن عناصر التنظيم الإرهابي على ما يبدو بدأوا باستعادة نشاطهم من جديد بعد حالة الضعف الأمني التي عانت منها “قسد” بعد عملية “نبع السلام”، ما أدى لعودة نشاط التنظيم بشكل ملحوظ مؤخراً.
وفي الوقت الذي يعاود فيه التنظيم نشاطه، نرى أن صراعاً هناك بدأ يحتدم أكثر بين القوات الروسية والأميركية في المنطقة، فيما يتضح في زاوية ما أن الطرفين بات تنظيم “داعش” يمثل لهما ورقة رابحة في مساعيهم للبقاء في المنطقة إلى أجل غير مسمى، لذلك فإن محاربة واحتواء عدم امتداد عناصره إلى خارج المنطقة؛ سيكون فزاعة لكليهما ضد أي مطالب تدعوهم للخروج، وبناء مستقبل مستقر للمنطقة بعيداً عن التجاذبات والصراعات.
الأخيرة (روسيا) لا يعتبر ملف “داعش” عندها الوحيد في المنطقة، فهناك ملفين آخرين لا يقلان أهمية عنه، الأول يتمثل في استمرار محاولة سحب تركيا من الحضن الأميركي عبر الورقة السورية، من خلال مقايضات داخل مناطق الشمال السوري؛ وليكون شرق الفرات ملفاً دائم السخونة. فيما يبرز الملف الثاني بلي الذراع الأميركي عبر تقارب “قسد” مع دمشق ومنح الأخيرة فرص الوصول إلى مناطق خارجة عن سيطرتها منذ سنوات.
داخل هذه المعمعة لا يمكن للعنصر الإيراني (المزعج لكل الأطراف) ألا يبرز تأثيره السلبي على المنطقة، وهو الذي يحاول أن يدعم وجوده هناك بتثبيت قواعد عديدة له هناك، من أجل تأمين ممر نفوذ الحرس الثوري الممتد من طهران وحتى بيروت، في وقت تحاول فيه واشنطن التأكيد على أن أهم بنود استراتيجيتها يتمثل في القضاء على النفوذ الإيراني في سوريا بشكل كامل.
*المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة