مصياف تدفع ضريبة الصراع الإسرائيلي الإيراني

 

*إيفا حداد (اسم مستعار)

 

مصياف مدينة بخاصرة نازفة تتكئ على سلسلة من جبال وتتوسد أحجار قلعتها لكنها لا تنام؛ فنيران الجلادين تحيط بها من كل صوب وحدب، هي تابعة إدارياً لمحافظة حماة إذ يتراوح عدد سكانها ما بين خمسة وثلاثين ألف وأربعين ألف نسمة، ويحيط بها مجموعة من الجبال وأهمها (جبل المشهد العالي) بارتفاع يبلغ 1027م تقريباً وجبل (عين خنازير) بارتفاع يقدر بـ 779م. إن غالبية سكان المدينة موظفون/ات لدى الدولة، وهذا لا يلغي ارتفاع معدل البطالة فيها؛ إذ تعاني فئة الشباب من انعدام فرص العمل فتراهم يتجهون للهجرة إما لإيجاد فرصة عمل أو للهروب من الخدمة الإلزامية وتأمين الحد الأدنى لبدل الخدمة العسكرية، أما بالنسبة للتعليم فيها فحاله حال سائر المدن السورية، إذ يعاني من إشكاليات متعددة كانحدار المستوى التعليمي وقلة الإمكانيات عدا عن رواتب المدرسين/ات التي تكاد لا تكفي ليومين. أما بالنسبة للوضع الإثني والطائفي فهناك الكثير من اللغط بشأن ذلك، فقد درج تسمية أهل مصياف (بالجعفرية)، وأيضاً (الإسماعيلية)، وأوضح هنا أن اللغط حول كلمة الجعفرية فهي كلفظ تشمل كل مذاهب الشيعة لأن الإسماعيلية التي يعتنقها أهل مصياف هي (إسماعيلية نزارية مؤمنية) أما تلك التي في منطقة السلمية ومنطقة نهر الخوابي التابعة إدارياً لمحافظة طرطوس هي (إسماعيلية آغاخانية)، حتى أن الاثنا عشرية الشيعية يقولون إنهم اتباع جعفر الصادق؛ وهنا يطول الحديث.

يتواجد العلويون/ات في مصياف بكثرة داخل المدينة، وفي غالبية القرى المحيطة بها من كل الجهات، بالإضافة إلى توزعهم/ن في بعض القرى المسيحية المحيطة. 

انتشرت في مصياف حركة التشيع ما بعد 2011 بسبب التواجد الإيراني فيها، مصياف التي كانت للثقافة والفكر العلماني وانتشار الأحزاب السياسية فيها الحصة الأكبر، بالإضافة إلى نشاط مركزها الثقافي حين كان بإدارة المرحوم الكاتب والمترجم رفعت عطفة. 

حالياً يوجد مسجد باسم (مسجد الرسول الأعظم) في “الحي الشمالي”، وهو بالتأكيد تابع لإيران، حيث أن واجهته تظهر ممارسة شعائر دينية وتنفيذ نشاطات متعددة مثل إعطاء دروس دينية توعوية، ومحاضرات ثقافية، وتكريم  بعض المدرسين القدماء، وتوزيع فتات من سلات غذائية ومعونات مادية، وتوزيع حطب للتدفئة في الشتاء؛ فتراه مركزًا يؤمّه الناس بكثرة، وترى الشباب من فقر الحال يتطوعون لدى الحرس الثوري الإيراني، وبهذا تغرز إيران مخالبها في المنطقة بتمويل رواتب زهيدة للشباب المتطوعين الذين يزجون بأنفسهم للمخاطر نتيجة البطالة التي لم تعد مقنعة بل باتت سافرة.

 امتد التشيع باعتبار الإسماعيلية تتقاطع مع الشيعة كجذور دينية، وهنا تلعب السياسة الإيرانية القذرة دورها في عقول الناس عن طريق النظام الداعم لها عوضاً عن الوصوليين والانتهازيين ميسوري الحال من أهل البلدة ليزيدوا من ثرائهم أو ليملؤوا عقد نقصهم باستلامهم لمنصب ما. 

أما بالنسبة للتواجد الإيراني كمواقع عسكرية فهناك “مركز البحوث العلمية” المتواجد في منطقة تبعد عن مصياف قرابة 7 كلم، ويشتبه بأنه يساعد الإيرانيين في تصنيع الصواريخ، وهناك أيضاً “مجمع الزاوي” ويسمى أيضاً (معامل الدفاع) إذ يبعد عن مصياف شمالاً بقرابة 12 كلم.

وحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان تتمركز في “مجمع الزاوي” ميلشيات إيرانية كما هو الحال في “معسكر الطلائع” (الشيخ غضبان)، وموقع (حير عباس) الواقع في بداية مفرق وادي العيون – مصياف وهذا الموقع تابع أيضاً لمركز البحوث العلمية الذي ذكر آنفاً. 

وباعتبار أن مصياف منطقة استراتيجية جغرافياً، فقد شهدت تواجداً إيرانياً خلال سنوات الحرب، ومع ذلك تنفي إيران عادةً وجود قوات عسكرية لها وتقول أن لها دوراً استشارياً فقط، لكن في الواقع وجودها هو استراتيجية لتعزز نفوذها ودعم النظام.

 

بالنسبة للضربات المتتالية على مصياف، وأذكر هنا بعضها:

 الهجوم في 7 أيلول 2017: إذ استهدف هذا الهجوم مركز الدراسات والبحوث العلمية في مصياف، ويعتقد أن هذا المركز يستخدم لتطوير وتخزين أسلحة كيماوية وصواريخ دقيقة التوجيه، قتل على إثر هذا الهجوم عدد من الخبراء.

الهجوم في 22 تموز 2018: إذ استهدفت الغارات مجمع تصنيع صواريخ قرب مصياف وعلى إثر الهجوم تم تدمير معدات متطورة وتمت إصابة عدد من الأفراد.

غارات 13 نيسان 2019: الذي استهدف مواقع عسكرية في محيط مصياف، وأفادت حينها وسائل إعلام سورية رسمية عن إصابة ثلاثة جنود، وذكر أن الدفاعات الجوية تصدت لبعض الصواريخ كما جرت العادة.

هجمات 4 حزيران 2020: التي استهدفت مراكز أبحاث ومواقع عسكرية قرب مصياف ويعتقد أن مقاتلين موالين لإيران قتلوا فيها وبعدها تم رصد حرائق واسعة في المنطقة.

 هجوم 27 حزيران 2022: دمرت إسرائيل صواريخ إيرانية أرض – أرض متوسطة المدى تم تصنيعها في مركز البحوث العلمية بإشراف خبراء من الحرس الثوري الإيراني الذين يعملون فيه، وفي مصنع (الزاوي).

في كل ما ورد أعلاه من هجمات كان هناك إصابات لمدنيين/ات وكان يتم نقل الجرحى/الجريحات إلى مشفى مصياف الوطني، وبالنسبة للحالات الخطرة كانت عادة تنقل إلى مشفى حماة الوطني.

وبخصوص المنشأة التي تم قصفها في ليلة 9 أيلول 2024: فقد تم بناؤها في عام 2018، إذ بني مصنع تحت الأرض في جبل يسمى (حير عباس) وهو مصنع مخصص لتصنيع وتطوير الصواريخ الدقيقة قصيرة المدى، أنشأته وأشرفت عليه ميليشيا تابعة للحرس الثوري الإيراني وهو بدوره تابع لمنشأة البحوث العلمية آنفة الذكر في مصياف، وقد استهدف قبل ذلك من قبل إسرائيل، إذ تعرض منذ عام 2018 إلى سلسلة من الغارات الجوية الإسرائيلية.

منذ العام 2014 بدأت إسرائيل استهداف شاحنات نقل الأسلحة الإيرانية إلى حزب الله في لبنان، لكن بوتيرة متباعدة أخذت بالتزايد بعد العام 2018 واتفاقيات خفض التصعيد في سوريا، الاتفاق الذي كان من بنوده إبعاد الميليشيات الإيرانية عن حدود الجولان مسافة 40 كم، وهو البند الذي لم تلتزم به إيران، وبناء عليه اتخذت إسرائيل قراراً بمنع التموضع الإيراني على حدودها مع سوريا، التطور الذي وحد الساحتين السورية واللبنانية، والضرب المتواصل لقواعد ومستودعات حزب الله في لبنان وسوريا لإضعافه، بعد دخوله على خط الصراع في غزة تحت عنوان الإسناد والمشاغلة، هذه المواجهة المضبوطة بقواعد الاشتباك المعمول بها إلى حد كبير، لكن تفجير أجهزة الاتصال الذي حدث يومي 17 و18 أيلول الجاري، يعتبر تصعيداً خطيراً وكسراً لكل قواعد الاشتباك، كما يشير بشكل كبير إلى احتمال الحرب الشاملة التي لا تريدها إيران وأمريكا وحزب الله بينما تستعجلها حكومة نتنياهو. ونظراً لانكشاف حزب الله والتراجع الكبير في قدراته، راحت قوى لبنانية تطلب من حزب الله القبول بتطبيق القرار 1701، وتفويت الفرصة على نتنياهو بتدمير لبنان في فترة شلل أمريكي بسبب قرب انتخاباتها، ولسبب أهم وهو أن العلاقات بين الدول دائمة العضوية في المجلس متوترة جداً بسبب الحرب في أوكرانيا، مما يجعل من المستحيل الحصول على قرار أممي بمستوى القرار1701 أو أفضل منه، لكن ليس من السهل على حزب الله تجرع السم والتراجع عن حرب الإسناد والقبول بتطبيق القرار وترسيم الحدود وتسليمها للجيش اللبناني.

(حير عباس) يقع في بداية مفرق الطريق المؤدي إلى وادي العيون – طرطوس، ويعتبر استراحة جبلية خلابة فهو بداية الطريق الجبلي الساحر المحاط بالأشجار والوديان والتلال الواقع في الجهة الجنوبية لمدينة مصياف يعتقد البعض أنه يقع في ريف مصياف لكنه يعتبر إلى حد ما في المدينة ذاتها؛ فأراضي ومزارع أهل المدينة المالكين تقبع في ذات المكان، ويقع بجانب مقصف (الوراقة) ذائع الصيت الذي سمي بهذا الاسم نتيجة لكثافة الأشجار، وقد كتب عنه الشاعر المصيافي ممدوح عدوان إذ قال: 

يبكي لنا الصفصاف فنحن كالناقة 

تابوتنا مصياف والقبر وراقة 

هذا البيت من الشعر كان هاشتاغاً موحداً لكل أهل مصياف الذين نعوا من قضوا نحبهم في تلك الليلة المرعبة.

في هذه المنطقة ذات الصفات الجغرافية المواتية، قررت إيران بناء مصنع تحت الأرض في عمق الجبل كونه غير قابل للاختراق من قبل إسرائيل، والبناء فوق الأرض كان للتمويه فقط، ما حدث داخل المبنى لا أحد يعلم به بدقة، إذ استمر القصف لمدة ثلاث ساعات.

 القصف في الساعة والنصف الأولى كان عنيفاً جداً وبصواريخ متوسطة المدى، بحيث دمر كل ما فوق الأرض، وعلى أثره اهتزت بيوت المدينة التي عاشت ليلة من الخوف والذعر لن تمحوها الذاكرة، هم اعتادوا على الضربات الإسرائيلية لكن هذه الضربة هي الأقوى على الإطلاق. 

بدأ القصف كمرحلة أولى للبرج القابع في (جبل المشهد العالي) – الذي بني قديماً وكان تابعاً لمديرية الحراج والغابات التابعة لوزارة الزراعة ومديرية زراعة حماة- بصاروخ استهداف مباشر، لقد تم قصفه أولاً بسبب وجود أجهزة استشعار ورادارات ترصد للطيران الإسرائيلي إضافة إلى قيام هذه الأجهزة بالتشويش على المسيرات الإسرائيلية. 

 وفيما بعد تم القصف لقطع الطرق على المدنيين/ات فكانت المرحلة الأولى بجانب (حير عباس) باستخدام حوامات تمتلك أجهزة ورادارات ليلية تستطيع كشف أدق الأشياء التي تتحرك في المنطقة المستهدفة، وبالتالي تستطيع قوات الإنزال الجوي أن تصل مع حوامات الاقتحام التي تؤمن دعماً بواسطة أحزمة نارية قبل الإنزال وبعده.

بعد القصف الأول لـ (حير عباس) حاولت جرافة الدخول، بعد أن قطعت دوار (الوراقة) لإزالة الردم وتسوية الأرض بسبب تواجد حفرة كبيرة، لكن تم قصف الجرافة وتوفي السائق، ثم أحاطت المسيرات كل المنطقة إذ يستهدف كل من كان يتحرك أو يقترب من هذه المساحة ولو بمسافة نصف كيلو متر.

فيما بعد عُرِف أن خمسة أشخاص قتلوا من المدنيين ولم تنتشل جثثهم حتى الصباح، الأقوال تؤكد أن منهم من كان يقضي وقته في مزرعة قريبة وحاول بعضهم أن يهرب، لكن تم استهدافهم.

وهناك أيضاً عائلة من آل (صبورة) في مصياف بيتهم الأساسي في الحي الجنوبي لكنهم يمتلكون مزرعة بجانب الموقع وكانوا هناك، وعندما سمعوا الأصوات المرعبة بعد القصف الأول انطلق الأب بسيارته وأخذ ابنه وزوجته إلى منزلهم، وعاد أدراجه فوراً بسيارته ليأخذ عمه وأبيه ليفاجأ بالقصف الثاني ويلقى حتفه مع عمه وأبيه.

بعد القصف الثاني حدث اشتباك بري إذ سمع أهل المدينة صوت رشاشات، مما يؤكد حدوث اشتباك بري، وقد أخذ وقتا قصيراً جداً، والمؤكد بأنه حتى الحارس الليلي المقتول وهو سوري الجنسية لا يعرف شيئاً بدقة عن تفاصيل الهجوم. 

كيف سيعلم أحد أي معلومة والمكان مزود بأنفاق داخل الجبل، والذين قتلوا داخل المبنى غالباً نقلوا إلى جهة مجهولة لا يعلم بها أحد، بسبب وجود ممرات وأنفاق تم تصميمها من جهة خارجية.

قبل عملية الإنزال الجوي تم توجيه القصف للطريق المقابل لمقر الأمن العسكري، وليس للمقر بحد ذاته، كي لا يتمكن أفراد الأمن العسكري من المؤازرة، بالإضافة إلى أن استهداف هذا الطريق يضمن عدم وصول أي فرد من قوى الأمن من قرى مجاورة على طريق حمص- دمشق، بالإضافة لقطع الطريق الأساسي قبل ذلك وهو طريق وادي العيون – طرطوس.

 عملية الإنزال الجوي التي تمت عبر أحزمة نارية تضمنت اشتباكاً برياً، وفيما بعد تم استخدام المتفجرات التي كانت بحوزة الجيش الإسرائيلي لتفجير المنشأة الواقعة تحت الأرض.

الجدير بالذكر أن هنالك سيناريو آخر حول هذا الهجوم، وهو وجود مجموعة إما تابعة للموساد الإسرائيلي أو قد تعود هذه المجموعة لعملاء سوريين تواجدوا في المنطقة الترابية – التي تم إنشاؤها حديثاً- والتي بقيت آمنة ولم يتم قصفها، ويرجح أن هذه المجموعة انتظرت القصف الجوي حتى يتم تغطيتها جوياً كي تقوم بالهجوم البري وخطف الإيرانيين وسرقة أجهزتهم ثم تم سحب هذه المجموعة بواسطة المسيرات الإسرائيلية. 

بلغ عدد القتلى والجرحى بحسب المرصد السوري 37 جريحاً و25 قتيلاً وهم خمسة مدنيين وأربعة من قوات الجيش السوري واثنان من حزب الله اللبناني وإحدى عشر من السوريين العاملين مع الميليشيات الإيرانية وثلاثة مجهولي الهوية، وبحسب رأي أهالي مدينة مصياف فقد بلغ عدد القتلى 17 وأسماؤهم: 

1- نزار علي مرهج

 2 -أحمد عزيز مرهج

 3 -عزيز أحمد مرهج

 4- رائد أحمد علي

 5- تميم عادل يوسف

 6 – يوسف سليم فرج 

7- أحمد علي الفرق

 8- عبد الله بسام قهوجي

 9- مجد أحمد الراشد

 10- محمد أحمد عيسى

 11- حسين ديوب

 12- خليل محسن مخلوف

 13 – منهل محمد شاهين

 14 – رامي وهيب يوسف

 15- يوسف نصر عبد الله 

16- حسن ونوس

 17- مجهول الهوية

أما عن ردود الفعل المحلية في منطقة مصياف، فالغالبية العظمى تشعر بالقلق، لأن الوجود العسكري لحزب الله وإيران يجعل المنطقة هدفاً مستمراً للهجمات الإسرائيلية، إذ أن الهجوم الأخير يعتبر رسالة قوية من إسرائيل مفادها أنها لن تتسامح مع أي وجود عسكري إيراني قرب حدودها.

وختاماً، فإن الخاسر الأكبر في الهجوم الأخير هذا هم المدنيون/ات، وكل ما حدث يؤكد على هشاشة الوضع السياسي في سوريا، ويبدو أن الطريق نحو حل سياسي شامل للأزمة السورية ما يزال طويلاً وشائكاً. ويبقى السؤال المطروح: هل ستؤدي هذه التطورات إلى تصعيد واسع أم ستدفع الأطراف المعنية نحو حوار جاد لتجنب المزيد من التصعيد؟

 

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية