المرأة وسيميائية الكاريكاتير السياسي

*آلما سالم: قيّمة فنيّة ومدافعة عن الحرّيات 

مقدمّة 

يتناول هذا النصّ مسألة تعهير النساء السياسيات والعاملات في الشأن العام في معرض انتقادهّن، وقد بدأت الظاهرة بالانتشار حديثاً في السنوات العشر الماضية التي شهدت انخراط المرأة في الساحة السياسية بشكل أوسع. حيث تمّ مثلاً ملاحقة وإهانة إحدى السياسيات بسبب صورة ظهرت لها في لباس البحر، وتهّدد أخريات كل يوم بالضرب وقتل الشرف، كما يظهر هذا التعهير بشكل أكثر إشكالية في الفّن عبر استعارة صورة جسد المرأة الذي يُنتَهك في معرض التعبير عن مفاهيم غياب العدالة بأشكالها، وينشد المقال على وجه الخصوص الإضاءة على حالة رمزية الاغتصاب في الكاريكاتير السياسي، ويحاول توضيح سبب رفض النسويات لها.

المصدر: غرافيتي “الصدرية الزرقاء: لا لتعرية الشعب” للفنّانة بهية شهاب – مصر – ٢٠١١

 حريّة التعبير أم حريّة المرأة؟

في حين يتمّ اللجوء إلى التعاطي المباشر مع الانتهاكات التي تواجهها المرأة في إطار المنظومات القانونية والتوعوية والبرامج التنموية، يصعب ذلك حين نجد أنفسنا أمام رسومات كاريكاتير سياسي تستهدف جسد المرأة حيث نقع في جدلية قضيتين من قضايا حقوق الإنسان ولا أولوية في قضيةٍ على ثانية.

الأولى هي حريّة التعبير الفنّي المصون في شرعة حقوق الإنسان، والثانية تتعلق بحقّ المرأة الفاعلة في الشأن السياسي والعام في الحماية من العنف الجندري والمصون في كل من اتفاقية السيداو من أجل إلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة وفي اتفاقية المرأة في الأمن والسلام. 

 سوف نتطرّق في مقالنا إلى آلية تأثير الكاريكاتير السياسي كنوع فنّي له خصوصيته وسوف نستعرض كذلك في الوقت نفسه واقع هيمنة الرسامين الرجال عليه كنادي ذكوري أو ما يسمى بالإنكليزية Boys Club وغياب قضايا النساء عن أعمالهم، ونرى متى بدأت الرسّامات تنضم إليه في عالمنا العربي والتغيير الذي أحدثه انخراطهّن، وفي الوقت نفسه سوف نمرّ على تحدّيات حضور المرأة في الشأن العام ليس فقط في إقليمنا وحسب بل في العالم، كما سوف نلجأ إلى السيميائية كمنهجية تحليل فنّي لتحليل رمزية الاغتصاب في الكاريكاتير السياسي.

كيف نتعامل كردة فعل مع رسم كاريكاتيري مهين؟   

أوّل القول؛ لا لمحي الأثر 

يقترح البعض محي الكاريكاتير الذي يعتبر مسيئاً أو إزالته ولهم نقول لا؛ حيث تُمنح الأعمال الفنية في المعاهدات الدولية (1) حصانة تسمح لها برفع سقف حرية التعبير وكسر التابوهات السياسية والدينية والاجتماعية، ويُعتبَر أي عمل فنيّ أثراً إنسانياً وشاهداً على العصر، فبغّض النظر عن جُودته وقيمته الفنيّة من عدمها، يبقى من الواجب حِمايته في حال رغب الفنان بذلك في إطار كلِّ من اتفاقيات حماية التراث وقوانين حريّة التعبير، فلا يجوز محيه أو تدميره أو إخفاؤه فكل عمل هو مرجع لطالبي المعرفة وللنقّاد يساهم في التحليل والتفكير حول الإرث الإنساني. فعلى سبيل المثال سوف تحتاج الأجيال القادمة إلى رسومات كهذه كي تحلّل تحديّات مشاركة المرأة في العمل السياسي في القرن الواحد والعشرين، وكي تعيد قراءتها وتثبت وتفهم نظرة الجيل السابق من الرجال إلى المرأة، وعليه تعتبر تلك الرسومات وثيقة تاريخية.

ثانياً حق الفنّانة/ن بإثارة الجدل 

وفي إطار الحرّيات الفنيّة كذلك علينا الاعتراف أنّه لا يمكن لفنّان خصوصاً رسام الكاريكاتير أن يحيا دون إثارة الجدل ودون المشاغبة وحقّه في التحدّي محفوظ في إطار حريّة التعبير الفنّي مهما كسر من مقدسّات وإلا لأصبحت رسوماته طهرانية وطفولية ولا تعكس الواقع المعاش أو أولويات الشارع الذي ينتمي إليه. 

ثالثاً حق الرّد، لا للعنف 

 في حين يبرر البعض الرد على الإهانة بإهانة مشابهة أو بأي شكل من أشكال العنف، نعيد إلى الأذهان أن ما تنشده حريّة التعبير في جوهرها هو المساحة الآمنة الخالية من العنف، حيث يرّد على الكلمة بكلمة، وعلى الرسم برسم، وعلى الفيلم بفيلم يتحداه ودواليك.

 بهذه الطريقة فقط نبني الأفكار والمجتمعات ونؤسس لاستمرارية الحوار حيث نأخذ الجمهور بعين الاعتبار ونترك له مساحة المشاركة فلا نقمع الأفكار أو نخنقها بالخوف. 

آلية تأثير الكاريكاتير السياسي كنوع فنّي

تشتق كلمة كاريكاتير من الكلمة الإيطالية (Caricare) ومعناها “يبالغ”؛ كما يعّرف الكاريكاتير السياسي بأنّه فنّ ساخر من فنون الرسم يتجسد بصورة تبالغ بطريقة هزلية في إظهار تحريف وتشويه وتعرية وتضخيم الملامح الطبيعية أو خصائص ومميزات شخص أو جسم ما، إمّا بهدف السخرية نفسها أو النقد الاجتماعي أو السياسي أو الفنّي أو التقليد أو الهجاء لموضوع معين أو لرفع الوعي والجرأة بتخطيه حاجز السخرية، و هو فنّ يحاكي الأساطير في سطوته وقدرته على حشد الرأي العام وفتح الحوار الصعب حيث يذهب إلى ما وراء الفكرة أي إلى ما يسمى “الدرجة الثانية من المعنى the second degree” ويخلق لعبة حيرة بين المعنى وما ورائه فتثير تلك الحيرة السؤال الذي لا يجرؤ أحد على طرحِه وهو بذلك يساهم في تجسيد الأولويات ونقل الساحة إلى تشكيل رأي جماعي ويسّرع عملية التغيير . هذا ويعّد الكاريكاتير في الوقت نفسه مادّة صحفية ويعتبر أداة لحرية التعبير تحميها العديد من قوانين الدول وتختلف بمساحة حدودها في ما بينها.  

وكي نقدّر مكانة هذا الفّن وأثره على التغيير فلنعود إلى بعض الأمثلة التاريخية، ومن أولّها أعمال الرسام البريطاني الساخر جيمس جيلاري الذي اشتهر برسومه التي تسخر من الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت في أواخر القرن الثامن عشر، والذي اعتاد «جيلاري» تصويره شخصًا قصيرًا متعجرفًا بقبّعةٍ كبيرة مضحكة. ثم صار «الرسم المبالغ فيه تشريحيًا» فيما بعد واحدًا من أكثر أشكال الفنون تعبيرًا عن الواقع ونقدًا له على مدار مئتي عام أو أكثر، ليس في نصف الكرة الشمالي فحسب؛ بل وفي عالمنا العربي الذي اشتهر بثراء محتواه من رسوم الكاريكاتير على مدار قرن وأكثر من الزمان.

ثمن الكاريكاتير السياسي في العالم العربي 

 يعتبر العالم العربي مسرحًا للأحداث، متقّلباً لا يستقّر، وربما ارتبط ذلك بمحاولات مبكرة في ظهور فنّ الكاريكاتير السياسي فيه مع نهايات القرن التاسع عشر وخصوصًا في مصر على يد الصحفي والمسرحي المصري يعقوب صنوّع الذي أنشأ جريدة «أبو نضّارة» وهي من أولى الصحف التي احتوت رسوم الكاريكاتير السياسي الذي ينتقد الاحتلال الإنجليزي، والسلطة وقتها المتمثّلة في الخديوي إسماعيل وابنه الخديوي توفيق. و لا بد من ذكر الكسندر راجوب صاروخان، وهو أرمني الأصل ويعتبر رائد فن الكاريكاتير السياسي ونجمه الأشهر والأبرز على مدار أكثر من نصف قرن، بدأ في «روزاليوسف» وتألّق في «آخر ساعة » و«أخبار اليوم » نفّذ في حياته أكثر من 40 ألف عمل  ونشرت في مجلات فرنسية كذلك مثل «لابورس إجيبسين، إيماج» وتوفي في عام 1977، ومن أوائل رسامي الكاريكاتير السياسيين المصّري محمد رخا ولد عام 1911 ونشر العديد من الرسومات بغرض إسقاط الملك فؤاد وهذا أدى إلى إلقائه في السجن لمدة سنوات أربع، وقد أصدر رخا مجلة خاصة به تحت اسم ” أشمعنى”، في عام 1948 ميلادية قام محمد رخا بإنشاء الجمعية المصرية للكاريكاتير وتولى هو رئاستها. ومن ليبيا لا ننسى ذكر الرسام حسن دهيميش وقد لقبّ بالساطور عايش عهد القذافي، وما بعده ولقبه هذا جاء لأن رسوماته كانت أشبه «بالساطور» الذي لم يرحم أياً من الفاسدين. أما عن الكاريكاتيري الفلسطيني ناجي العلي والذي كان يسير في أحد شوارع العاصمة البريطانيّة لندن يوم 22 يوليو من العام 1987 متجهاً إلى مقّر عمله في مكتب صحيفة “القبس” الكويتية، حين اغتالته رصاصة من مجهول استقّرت أسفل عينه وأدخلته غيبوبة امتدت 38 يوماً قبل أن يفارق الحياة، تميّز ناجي العلي بالقدرة على التقاط المفارقات في الأحداث السياسية وترجمتها إلى رسومات كاريكاتيرية بأسلوب مباشر واضح مركزاً على الفكرة أكثر من الشكل وبقدرته على الترميز من خلال خلق الشخصيات المحلية وأشهرها شخصية الطفل “حنظلة” والذي أصبح رمزاً فلسطينياً وشخصية لا يتجاوزها الزمن. ونذكر هنا كذلك الرسام الأردني عماد حجاج الذي ابتدع شخصية محجوب الساخرة وله تاريخ من الرسوم المعبرة عن الفئات المقهورة وقد ناله من الاعتقال نصيبه في عام 2020 كما سبق له واتّهم بالإساءة للدين لتجسيده المسيح مصلوباً ومتبرئاً من بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية في القدس المحتلّة. (2)

 ومحمود كحيل اللبناني هو من أبرز رسامي الكاريكاتير السياسي في العالم العربي وقد شارك بتأسيس صحيفة «الشرق الأوسط» وما يميّزه عن غيره هو اعتماده نمطاً وأسلوباً خاصاً قائماً على عدم استخدام الكلمات وسعيه إلى تجسيد مفهوم «الصورة بألف كلمة». هذا وقد تميّز خالد البيه الرسام السوداني الشاب بطريقة معاصرة للتعبير الساخر عن الخلل السياسي في السودان والدول العربية عبر مواقع التواصل؛ فمع انطلاق موجة الربيع العربي وجدت رسوماته جمهورها الشبابي الواسع فرفعها الشباب المصري والتونسي واليمني في ميادين الثورات وساحاتها في الدول التي شهدتها، وقد أجبر على مغادرة السودان قسراً مع عائلته مع انطلاقة ثورتها. وفي الجزائر من الدعاوى الشهيرة الموجهة ضد رسام كاريكاتوري، قام ناشر صحيفة “لافوا دولورانج” La Voix de l’Orange برفع شكوى على رسّامها جمال غانم في سبتمبر 2013 بتهمة إهانة رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة في رسم لم ينشر حتى، ثم تعرض غانم للاعتداء على أيدي جماعة مجهولة قبل أن تبرئه محكمة الجنح في مدينة وهران، وكانت النيابة قد طالبت بحبسه 18 شهراً. أيضاً كانت سوريا من أوائل التجارب العربية في فن الكاريكاتير السياسي فكان الرسام عبد الوهاب أبو سعود (1897-1951)، فناناً فلسطينياً عاش وعَمل وتوفي في دمشق، وكان من رواد المسرح في سوريا. وقد لمع نجمه في عهد الملك فيصل الأول عندما قدم مسرحية سياسية ساخرة عن جمال باشا، حاكِم سوريا الأسبق إبّان الحرب العالمية الأولى. وبرز من السوريين في نصف القرن الماضي علي فرزات و​​لقّب بالرسام صاحب القلم الذي صنع من الفولاذ الدمشقي، وهو مؤسس جريدة “الدومري” عام 2001 الساخرة ولطالما لعب كاريكاتيره هذا الدور بإتقان إلى مرحلة اللحظة التاريخية لدى السوريات/ين في عام 2011 برمزيتها وَالتي كُسِرت فيها أصابعه لمنعها من الرسم.

خَوف السّاسة من الكاريكاتير 

ومع هذه الأثمان الباهظة التي يدفعها رسامو الكاريكاتير السياسي ثمناً لحريتّهم لا بد من ذكر الخوف من الاضطهاد الذي يعيشونه. فيقول الفنان علي المندلاوي: “جزء مهم من الجواب يكمُن في السؤال فخوفُ الساسة من الكاريكاتير، سياسياً كان أم غيره، ينبع من قدرته على كشف عوراتهم في اللحظة التي يسلط فيها الضوء على الفساد، وسوء الخدمات، والمحسوبيات، والنهب، والتخبط، وسلب الحريات، والقمع، وغيرها، في رسوم كاريكاتيرية أخّاذة يتزاحم عليها الناس عامة، وبلغة ظريفة وواضحة للجميع ومحببة لهم”، مضيفاً: “وقد لا يصل منع النشر إلى صحفهم فقط، بل يمتّد إلى صحف ومجلات الدولة، والأخطر إشاعة الرعب بالسلاح المنفلت لمنع الفنانين من النشر في أية وسيلة نشر ومنها مواقع التواصل الاجتماعي”. أما الفنّان خضير الحميري فيجيب عن سؤال خوف الساسة من الكاريكاتير، بقوله: “يتّخوف السياسي من أي نوع من أنواع النقد يمكن أن يحطّ من هيبته المصطنعة، لذلك فإن اللغة التهكّمية التي ينطوي عليها الكاريكاتير تصريحاً وتلميحاً، هي الأكثر قدرة على تعرية ذلك الديكور المتهالك”.

غياب رسّامات الكاريكاتير السياسي في العالم العربي

وفي حين شغل رسّامو الكاريكاتير السياسي من الرجال الساحات العربية في القرن الماضي وعانوا من الملاحقة والاعتقال والاضطهاد، نلحَظ في الوقت نفسه هيمنتهم وغياب الرسّامات عنها، وقد يترافق ذلك إما مع غياب أو تشويه لقضايا المرأة في رسوماتهم، كما يعكس غيابها في الرسومات واقع غياب المرأة عن الساحة السياسية والشأن العام -إلا فيما ندر بنسب ضئيلة- ولا يمكن لأحد هنا إنكار وطأة القيود الثقافية التي تكّبل المرأة في العالم العربي، والتي تحرمها في الكثير من الحالات من حّق الرسم نفسه، والتعبير الفني، ومن حريّة النقد، لا بل من حقّ الكلام حيث يعتبر صوتها عار وعورة، فلا تجرؤ على السخرية من التابوهات ويصعب عليها تجاوزها على عكس الرجال الذين يسهل عليهم اقتحام المقدسات دون أثمان باهظة، والأهم من ذلك كله هو حرمانها من حقّها في ممارسة دورها السياسي دون رعب من هيمنة العنف الذكوري، واستسهال التبرؤ منها لرفع صوتها وانتهاك حرمة وكرامة جسدها وسمعتها. 

وفي حين غابت رسّامات الكاريكاتير في القرن الماضي، إلا فيما ندر، فقد بدأنا نشهد تغييراً ترافق مع اقتحام المرأة للساحات العامة والعمل السياسي خصوصاً مع حراك الربيع العربي والذي طبع في ذهن بناته وأبنائه صورة الثائرة المصرية ذات حّمالة الصدر (الصدرية) الزرقاء والتي اقتحمت ميدان التحرير بالقاهرة إبّان ثورة 25 يناير ورمزت للعنف فيه، أو كما قالت في حينها الناشطة الصحفية منى الطحاوي: “دعونا نسّميها امرأة التحرير، ففي ذلك احترام أكبر لها”. بقيت صورة المرأة وهي تُسحب من عباءتها وتُركَل وتُضرب من قبل الجيش المصري والبلطجية في الأذهان حيث لم يقف العنف فقط عند الضرب ولكن أيضاً في الطريقة التي عرّى بها العسكر الجزء الأعلى من جسدها، والتي كانت مهينة للغاية لها، ويمكننا اعتبار هذه الصورة بحد ذاتها كاريكاتيراً سياسياً يعكس حقيقة استسهال سَحل النساء في الشوارع في لحظة خروجهن إليه.  

  ونذكر من رسامات الكاريكاتير أميّة فايز جحا، وهي فنّانة ورسّامة كاريكاتير فلسطينية، ولدت بمدينة غزة عام 1972، حاصلة جائزة الصحافة العربية لعام 2001، والعديد من الجوائز الفنية الأخرى، وتعّد أول رسّامة في العالم العربي تعمل في صحف سياسية يومية ومواقع إخبارية وهي زوجة لشهيدين. ومن الرسّامات اللاتي برزن بعد الربيع العربي رسّامة الكاريكاتير التونسية نادية الخياري والحائزة على جائزة couilles-au-cul في مهرجان أنغوليم للقصص المصورة في فرنسا كمكافأة على جرأتها الفنية. وقالت الفنانة (42 عاما) “أهدي هذه الجائزة إلى كل من غلب مبدأ الحرية على الأمن، إلى هؤلاء الذين لم يخافوا، إلى هؤلاء الذين قاوموا”. وقد خاضت نادية الخياري مجال الرسم الكاريكاتيري بعد الثورة التونسية سنة 2011. وقد خلقت شخصية القطة ويليس من تونس Willis from Tunis والتي لا تحترم أي مبدأ سوى الحرّية. وقد جسّدت منال الرسيني رسّامة الكاريكاتير السعودية أبرز القضايا الاجتماعية والسياسية والرياضية بحس كوميدي وساخر، وتقول الرسامة لـ شبكة الصحفيين الدوليين: “لقد جذبني فن الكاريكاتير لأنه مجال ليس حكراً على الرجال فقط”، أما رسّامة الكاريكاتير المصرية دعاء العدل وهي من شابات ثورة 25 يناير ورسّامة صحيفة “المصري اليوم” فقد قدمت خلال مشوارها المهني رسومات جريئة وذكية وفازت دعاء في عام 2014 بجائزة التميّز العالمية من “مؤسسة كارتون من أجل السلام” فقد جسّدت واقع المرأة المصرية وأبرز المشكلات التي تعانيها كل فئات النساء في كتابها (50 رسمة وأكثر عن المرأة) الذي يضم رسوم كاريكاتير متنوعة ترفض تهميش النساء، وتقليص أدوارهن في الحياة، والاعتداء على حرياتهنّ، وتعّد أكثر فناني جيلها نقداً لظاهرة ختان الإناث وزواج القاصرات، والتحرش بالمرأة، وقد قدّم بلاغ ضدها من قبل تيارات الإسلام السياسي في مصر واتهمّت بازدراء الأديان لرسمها صورة بعنوان “صوت المرأة ثورة”. وننشد في هذا المقال المطالبة بالمزيد من الدعم لرسّامات الكاريكاتير الصاعدات ونذكر منهّن الشابة السورية أماني العلي .

تحدّيات مشاركة المرأة في العمل السياسي وعقلية المضافات

 (3) وجدَت دراسة للاتحاد البرلماني الدولي نُشرت في عام 2018 ركزت على البلدان الأوروبية، أن العنف ضد المرأة في السياسة منتشر على نطاق واسع. وكشفت الدراسات عن أن أكثر من ثمانين في المائة من عضوات البرلمان اللائي شملهن الاستطلاع تعرضن لأعمال عنف نفسي، شملت في جملتها أشكال التهديد بالقتل، أو الاغتصاب، أو الضرب، أو الاختطاف خلال فترة عضويتهّن البرلمانية. وكشفت الدراسات أيضاً أنّ أعمال العنف النفسي ضد البرلمانيات منتشرة بشكل خاص على الإنترنت وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أصبحت الملاحظات الجنسية والمعادية للمرأة، والصور المهينة، والمضايقات، والترهيب والتهديدات ضد النساء في الحياة العامة أو النساء اللاتي يعبرّن عن آرائهّن السياسية علنًا أمرًا شائعًا. غالبًا ما تعرضّت البرلمانيات الشابّات والناشطات في الكفاح ضد عدم المساواة بين الجنسين والعنف ضد المرأة للاعتداء. كما أظهرت الدراسات أن ربع البرلمانيات اللاتي تمت مقابلتّهن تعرضّن للتحرش الجنسي من قبل زملائهّن في البرلمانات، سواءً من حزبهّن السياسي أو من أحزاب معارضة لحزبهّن.

فإذا كان هذا حال المرأة في البلدان الأكثر الديموقراطية فما حالها إذاً في عالمنا العربّي؟

يتميز العنف ضد المرأة في السياسة بكونه جسديًا أو جنسيًا أو نفسيًا بطبيعته؛ ففي حين يتعرضّ كل من الرجال والنساء بالعنف في السياسة، لكن العنف ضد المرأة يختلف بأنه يعتمد على النوع الاجتماعي، أي أنّه يستهدف النساء بسبب جنسهن لا بسبب كلمتهن. ويصنّف العنف على سبيل المثال لا الحصر بالملاحظات الجنسية، أو التحرش والعنف الجنسيين. ويعتبر العنف ضد المرأة في السياسة انتهاكًا لحقوق الإنسان، ويعتبر عاملاً لإعاقة المشاركة السياسية للمرأة وانتهاكًا لحقوقها السياسية.

 اليوم أكثر من أي يوم مضى يتميّز بخيبة أجيال قادت البلاد إلى الهاوية، لقد آن أوان الثورة على موروث المضافات العربية التي يُطلَب فيها من المرأة تنظيف أرضها في الصباح المبكر مع صياح الديك، ومن ثم الوقوف على بابها باستعداد تام للخدمة وتقديم القهوة والمأكل والمشرب مع عدم السماح لها بدخول الصالة حيث يتحاور الرجال حصرياً حول مآلات الشأن العام ويشكلّون صنع القرار. لقد أتى الزمن الذي تشارك النساء فيه مناصفة القرار السياسي، كما وجبَ على الرجال التنازل والمناصفة في الخدمة.

 الرمزية وسيميائية صورة المرأة النمطية في الكاريكاتير السياسي

 من أجل الوصول إلى مقاربة الشكل إلى الموضوعة في رمزية الاغتصاب في الكاريكاتير السياسي سوف نعتمد على المنهجية السيميائية في تحليلنا للعمل الفنّي حيث نجد هنا أن الدالّة هنا (جسد المرأة) تعكس المدلول (العنف ضد المرأة) 

ما هي السيميولوجيا أو السيميائية، ولماذا نحتاجها هنا؟

 لا تتوقف السيميائية عند تحليل اللغة والخطاب كنُظُم “إمكانية المعنى” كما يعرفها مايكل هوليدي في كتابه “اللّغة باعتبارها سيميائية اجتماعية”، بل يطبّق اليوم المنهج السيميائي على كافة المجالات التي تحمل دلالات وعلى وجه الخصوص ” مجال السيميائية الثقافية” والمستفيد من فلسفة الأشكال الرمزية عند كاسيرر (3) وطرحه ومفاده أنّ فهْم العالَم الإنساني مشروط باستحضار الرموز؛ لأنّ الجانب الرمزي هو مفتاح ذلك العالَم. ونخّص بالذكر هنا فن الكاريكاتير الذي يعد خطاباً إعلامياً شعبياً، حيث يسعى إلى تصوير أكثر المواقف السياسية والاجتماعية أولوية وإنسانيةً، ويمتلك قدرة على اختزال مساحات شاسعة من الرؤى، والرسائل المراد إيصالها، أو وجهات نظر عن أشياء أو حوادث، أو مواقف تتميز بالمبالغة، والرمزية بحيث يكون لها تأثيراً انفعالياً، وتداولاً، ورواجاً، حيث لا يعود الخطاب في عملية التواصل مقصوراً على اللّغة بل ينتقل منه إلى الصورة.

وإن طبقّنا السيميائية على فنّ الكاريكاتير باعتبار الرسم نصاً سيميائياً، حيث أن غاية الخطاب تتحقق فيه بالكلمة، والصورة، واللّون وأشكال أخرى من الدوال والرموز؛ الأمر الذي يجعل من الكاريكاتير فناً يتّخذ من الرسم وسيلة للتعبير ويؤسس نفسه في سيميائية العلامة وخاصّة في الحالات التي لا يصاحبها فيه تعليق، ولهذا يعتبر أحد الفنون الإعلامية التي لها قدرة كبيرة على النقد والتحريض، ولذلك يفسّر كيف أصبح هذا الفن جزءاً لا غنى عنه في أي صحيفة”.

خلاصات 

أولاً-  يمكننا لدى نقد الكاريكاتير السياسي الوقوف عند الشكل فقط كما في باقي فنون الصورة، إنّما على وجه الخصوص في الحالات الإشكالية يجدر بنا اعتماد المنهج السيميائي في النقد وهو اليوم مـن أبـرز معـالم التجديد النقدي في تحليل الأعمال الأدبية والفنيّة -وفي حالتنا هنا البصرية- حيث يمكننا هنا من الذهاب إلى ما وراء الصورة، و معالجة الدلالة الثقافية والاجتماعية التي أنتجت الصورة النمطية للمرأة العاملة في الشأن السياسي والعام وهي شأننا في هذا النّص، وذلك سعياً لكشف المعنى الأعمق ما وراء العمل فلا تعود قراءة العمل الفني أو الصورة انطباعـاً ذاتياً وتــذّوقاً فحسب، بل يصبح حاملاً لخفايا كثيرة والدال عليها يستفز القارئ، ويدعوه إلى البحث عنها، وفكّ رموزها انطلاقا من فهم العلاقة الجدلية الموجودة بين الدال والمدلول، بين الحضور والغياب. حيث تطفو تلك الدلالات فوق القراءة الأولى للعمل فلا يتم تأويله حصرياً على أنّه مكتفٍ بذاته وله قوانينه الداخلية التي تحكمه، في الصورة كذلك وظائف دلالية من مقابلات وتداعيات وتجانس أو تنافر والأهّم من ذلك كله أن هذه المنهجية تضمن عدم تغييب السياق الحقوقي والتاريخي والاجتماعي الذي قدّم فيه العمل. والإطار التاريخي في حالتنا هي السنوات العشر التي شهدنا فيها على الثورة النسوية المرافقة للربيع العربي وكرست دور المرأة في الشأن السياسي والعام. 

ثانياً- باعتمادنا على هذه المنهجية سنواجه ضرورة الاعتراف بدلالات التغيير الذي طرأ على العقلية الذكورية المتّعلقة بكيان المرأة ودورها في المجتمع والتي طغت على خطاب الرجال في القرن الماضي. هذا التغيير الذي بدأنا نشهده تحديداً مع حراك “Me-too” ومعه لم تعد تقبل النساء بالمساومة على حقوقّهن العامّة، وتغيّر معها الخطاب الذي يصغّر من شأن المرأة ودورها بالتركيز على الجانب الجمالي والجنسي لديها وعلى استسهال الإشارة إلى جسدها وتسليعه إنّما لم نشهد انعكاس هذا التغيير على صورة المرأة في الأعمال الفنيّة بعد بشكل كاف. 

ثالثاً – من نافل القول والملفت أيضاً التغيير الذي حصل في عالمنا العربي حيث بدأت القضايا المحورية التي تهّم المرأة العربية تظهر في العمل السياسي بعد أن همشّت بغيابّها وحصل ذلك بالتزامن مع بداية طرح القضايا النسوية في فنّ الكاريكاتير السياسي كذلك مع بداية ممارسة الرسامات لهذا الفّن وذلك مع تصويرهّن لأولويات بنات جنسهّن وهمومهّن.

وأخيراً، وبشكل أوسع وفي عودة إلى فن الكاريكاتير ورمزية الاستباحة والاغتصاب، لا بدّ لنا أخيراً أن نذكر كمثال قضيّة الرسام Zapiro والذي واجه المحكمة في تهمة تحقير بسبب ترميزه للعدالة بصورة امرأة مغتصبة، حيث صوّر عمل رسام الكاريكاتير زابيرو (6) “اغتصاب سيدة العدل” رئيس جنوب أفريقيا السابق جاكوب زوما وهو يستعد لاغتصاب امرأة تسمّى “نظام العدالة” يتعرّض لها أعضاء حزبه أي المؤتمر الوطني الأفريقي ويشير إلى شهادة زوما خلال محاكمة اغتصاب عام 2006؛ وبحسب زابيرو فإن الرسم الكاريكاتوري يمثّل “إساءة استخدام نظام العدالة” وفي دفاعه قال أنّه استلهمه من محاولات منع وصول قضية فساد ضد زوما إلى المحكمة. (6)

برّر زابيرو رسمه من خلال التأكيد على أن “معنى الرسوم الكاريكاتورية هو بكل وضوح رسم مجازيّ، وليس موجهاً ضد امرأة حقيقية”. ولكن من منظور آخر حتى لو سخرت هذه الاستعارات عن الاغتصاب من القوة، فإنها تخلق أيضًا في الوقت نفسه مزيدًا من الاختلالات في ميزان القوة حيث يصبح انتهاك المدعّي انتهاكًا لنظام العدالة بأكمله، ويتم تحويل الانتهاك من المراد نقده إلى شخصية سيدة العدل نفسها، ففي الوقت الذي يتم فيه استخدام انتهاكها بعنف كوسيلة ساخرة، يتم أيضاً استغلالها بشكل مضاعف، أولاً كضحية اغتصاب ثم كاستعارة، حيث ذهب الكثيرون بعيداً إلى اعتبار أن زاپيرو قام بنفسه باغتصاب رمزية العدالة. 

خاتمة 

في خِتام هذا النص يحضُرُني قول الكاتبة كارولين فورسيه الفرنسيّة وهي صاحبة كتاب “Éloge du” blasphème في مديح التجديف ” (Grasset, 2015) في معرِض تحليلها لجريمة الاغتيال الوحشيّ لرّسامي تشارلي ايبدو في العام 2015:

 “إذا كان هناك أمراً واحداً قد فهِمتُه على مرّ السنين فهو أنّه حتى لو كانت الدعابة عالمية، فإن ما يجعلُنا نضحك ليسَ كذلك. يَعتمِد ضِحكنا على الرموز الثقافية التي يمكن أن يفهمها بسهولة أولئك الذين يعيشون في فرنسا ويقرؤون صحيفة شارلي ايبدو بانتظام، ولكن يمكن إساءة تفسيرها بدون هذه الخلفية. ينطبق ذلك أيضاً على مبدأ الحق في التجديف، والذي يقع في صميم الثقافة الفرنسية والذي يمكن حتى القول إنه حجر الأساس لديمقراطيتنا العلمانية، بنفس الطريقة التي بنيت بها الديمقراطيات الأخرى، كما هو الحال في الولايات المتحدة، على الحريّة الدينية” (7)

ومع رفضنا لتكميم الأفواه والاعتراف الكامل بحّق رسام الكاريكاتير بحريّة التعبير وبسلطان فنّه وبحقّه في رسم العري وحتى بالحقّ بالتجديف إن شاء، يَعودُ إليه الحكم على مسؤوليته التاريخية تجاه العدالة، فلئن سَهِلَ عليه تسديد ريشته موجهّاً دالّته على أبناء جلدته، خصوصاً إن كانوا من الرجال، فلا ينسى أن يُصغِ جيداً كي يسمعَ مدلولَ صدى ضِحكته في آذان كلّ مستمعيه، خصوصاً من النساء.  

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية

مراجع 

(1) شرعة حقوق الإنسان 

(2) الكاريكاتير السياسي في العالم العربي الكاريكاتير السياسي محاصر بتحديات إضافية

(3) Situation as of 1 November 2018. Data compiled by UN Women based on information provided by Permanent Missions to the United Nations and Situation as of 1 October 2018 Women in National Parliaments World Average, IPU: archive.ipu.org/wmn-e/world.htm (accessed on 6 November 2018).

IPU, “Sexism, harassment and violence against women in parliaments in Europe”, Issues Brief. October 2018.

(4)- 1975. M. A. K. Halliday, Learning How to Mean.London.

(5)- (1923–29)Ernst Cassirer, Philosophy of Symbolic Forms

(6) Zapiro Political satire has a rape problem

(7) Caroline Fourest, a writer who lives in Paris, is the author, inter alia, of “Brother Tariq: The Doublespeak of Tariq Ramadan” (Encounter, 2008) and  “Éloge du blasphème” (Grasset, 2015). 

 Blasphemy in France and in Europe: A Right or an Offense? | Institut Montaigne- 

How Politically Radical Women in 19th-Century France Were Made Into Misogynistic Caricatures ‹ Literary Hub

General research: 

How sexist abuse of women in Congress amounts to political violence – and undermines American democracy

Sketchy Depictions – Gendering of Female Politicians in Editorial Cartoons

How Women Broke Into the Male-Dominated World of Cartoons and Illustrations

Tackling the ‘boys’ club’ of political cartoons

Letter to the South African Human Rights Commission: A response to complaints regarding my cartoon Zapiro

Questions and Answers on the Danish Cartoons and Freedom of Expression

Revue des linguistes de l’université Paris X Nanterre 44 | 2001

Sémiotique et sciences de la culture

François Rastier

Ryan, Michael (2011)، The Encyclopedia of Literary and Cultural Theory، Hoboken, NJ, USA: Wiley-Blackwell، ISBN 978-1-4051-8312-3، 

(Müller, et al., 2009, p. 32).