إلزامية التعليم ومحو الأمية في المجتمع السوري
- تاريخ النشر: 8 سبتمبر 2020
- |
*نضال جوجك
من المفارقات التي شهدتها وأنا تلميذة في المرحلة الابتدائية في سبعينيات القرن المنصرم، والتي شهدتها وأنا مدرّسة بعد 20 عاماً تقريباً هو قانون التعليم الإلزامي، وهو حسب مفهوم منظمة (اليونسكو UNESCO) التي ترى أن التعليم الأساسي «صيغة تعليمية تهدف إلى تزويد كل طفل ـ مهما تفاوتت ظروفه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ـ بالحد الأدنى الضروري من المعارف والمهارات والاتجاهات والقيم التي تمكنه من تلبية حاجاته وتحقيق ذاته وتهيئته للإسهام في تنمية مجتمعه»، وتذكر المنظمة العالمية لرعاية الطفولة والأمومة (اليونيسيف UNICEF) أن التعليم الأساسي هو التعليم المطلوب للمشاركة في الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأن يشمله محو الأمية الوظيفية التي تجمع مهارات القراءة والكتابة والحساب مع المعارف والمهارات اللازمة للنشاط الإنتاجي وتخطيط الأسرة وتنظيمها والعناية بالصحة والنظافة الشخصية ورعاية الأطفال والتغذية والخبرات اللازمة في أمور المجتمع، ولذلك يسميه بعضهم بمحو الأمية الحضارية. لكن التعليم كان مكلفاً جداً بالنسبة لأسرتي وللعديد من الأسر الأخرى، لا بل وشهدت ذلك أيضاً بعدما صرت معلمة.
كان التعليم إلزامياً منذ استلام الأسد الأب الحكم في سوريا، وتعهدت الدولة بمجانية التعليم من المرحلة الابتدائية وحتى التعليم الجامعي، وفي عهد الأسد الابن تم اعتماد مرحلة التعليم الأساسي التي بدأ تطبيقها منذ العام 2002 /المادة 32/ من إلزامية التعليم منذ الصف الأول وحتى المرحلة الإعدادية، كما نصت المادة 29 من الدستور السوري المقر في 2012 الفقرتين 1و 2 على أن التعليم حق تكفله الدولة وهو مجاني في جميع مراحله.
و فيما طُبق قانون إلزامية التعليم رقم/7/ إلا أنه عملياً لم يحدد مجانية التعليم، حيث أن ارتفاع تكاليف المستلزمات المدرسية أصبحت تفوق قدرة المواطنات/ين الشرائية في ظل الظروف الاقتصادية السيئة منذ قيام الثورة السورية لا بل وحتى قبلها، وهذا ما أكدته احصائيات محو الأمية في البلاد والتي سجلت تدنياً ملحوظاً، حيث سجل مكتب الاحصاء السوري أن نسبة الأمية هي 5% من مجموع السكان البالغ 22 مليون نسمة للعام 2009، بينما وفقاً لتقرير أصدرته منظمة الطفولة التابعة للأمم المتحدة (اليونيسيف) عام 2014، فإن زهاء ثلاثة ملايين سوري لا يستطيعون الذهاب إلى المدرسة داخل البلاد أو في دول اللجوء المجاورة، في حين بقي عام 2016 أكثر من 1.7 مليون طفل سوري داخل البلاد بلا مدارس، إذ إن مدرسة من كل ثلاث مدارس تهدمت بسبب الحرب.
حتى في دول اللجوء المجاورة وبسبب الوضع المعيشي المتدهور للاجئات واللاجئين، امتنعت أعداد كبيرة من الأسر السورية عن إرسال بناتها/أبنائها للمدرسة، فالطفلة/الطفل ما إن ت/يصل لسن العاشرة حتى تبدأ رحلة العمل لمساعدة الأهل في تأمين معيشتهم.
إضافة لظروف الحرب التي مرت بها البلاد لتسعة أعوام خلت، والتي سببت نزوح وهجرة الأهالي والدمار الكبير الذي قلص من المباني المدرسية، فإن الوضع الاقتصادي المتدني والفساد في المؤسسات التربوية والتعليمية كان له الأثر البالغ في تراجع التعليم في سوريا، ذلك أنه بالرغم من حرص الدولة على فرض الدوام المدرسي على التلاميذ ومساءلة الأهالي لعدم إرسالهم بناتهم/أبنائهم للمدرسة، لكنها، أي الدولة، أهملت بل وغضت الطرف عن أسباب عزوف الأهالي عن متابعة أولادهم للدراسة.
قبل الحرب كانت طرق التدريس لا تزال كما هي منذ الستينيات من القرن الماضي، وإن كان هناك ادعاءات من وزارة التربية والتعليم بتطوير العملية التعليمية، لكن ونسبة لتجربتي الشخصية حتى عام 2010، كان أسلوب القمع والترهيب المتبع في أغلب المدارس خاصة في الأرياف وحول المدن. أما في المدن الكبيرة لا مجال لاستخدام تلك الأساليب ليس تطبيقاً للقوانين التربوية بقدر ما هي انصياعاً للمحسوبيات، إذ كانت المدارس مأهولة ببنات وأبناء المسؤولين ورجال الأمن الذين لا يجرؤ المدرس، وحتى المدير أحياناً، على توجيه ملاحظة لهن/م.
كذلك كانت المدارس في المدن مكتظة بالتلاميذ، ففي الصف الواحد قد نجد 40-50 طفل في المراحل الابتدائية والإعدادية، ولم تراعي الدولة توسيع المدارس لاستيعاب الأعداد الهائلة من الطلاب الوافدين حتى أصبح الكادر التعليمي غير قادر على أداء وظيفته بالشكل المطلوب، وبسبب ضعف الراتب الوظيفي للمعلمة/للمعلم لجأت الكثير من المدرسات/ين لإعطاء دورات خاصة وهكذا صار باستطاعة المقتدرين من الأهالي تدارك ضعف تلقي بناتهم/أبنائهم الدروس في المدرسة وتعويضها الدرس الخصوصي. ربما كان القانون الإلزامي هو منع الطلاب من التسريب من المدرسة، لكن بسبب تردي الأوضاع المعيشية وإهمال الدولة لرعايا العلم والتربية صارت الواسطة والاستثناءات لقبول الكادر التعليمي بناءً على المحسوبيات وليس اعتماداً على الكوادر والكفاءات العالية لرفد العملية التعليمية والتربوية التي تعتبر أساس التنمية البشرية. وهكذا أصبحت أغلب المعلمات/ين مراقبات/ين فقط على حضور التلاميذ!
كانت الآلية المتبعة لكي تجتاز الطالبة/الطالب مرحلة التعليم الإلزامي هي نقله من الصف الذي استنفذ فيه السنوات الدراسية، وهكذا تكون نسبة كبيرة من التلميذات/التلاميذ قد أنهوا مرحلة التعليم الإلزامي وهم أميات/ين! ولا تعتبر الدولة من حصلت/حصل على الشهادة الابتدائية أمية/أمياً. لتكون إحصاءاتها في نهاية كل عام هي نقص معدلات الأمية في البلاد، كما نشر موقع للنظام السوري “الجمل بما حمل” على أن نسبة الأمية في سوريا قد انخفضت من 19% عام 2004 إلى 14.2% عام 2007.
في الأرياف كان الوضع أسوأ وكانت الإناث هن من دفع الضريبة أضعافاً مضاعفة، إذ وبالرغم من وجود الدروس الخاصة لكن الأهالي لم يكونوا ليولوا اهتماماً لتدريس الإناث بسبب أنها أولاً وأخيراً ستتزوج! عدا عن أن غالبية مناطق الأرياف يعتمدون على الزراعة، وأغلب العمالة من الفتيات والنساء، فهن الأقدر على رعاية الأولاد والطبخ وكذلك جني المحاصيل في كل المواسم. مما ساهم وبشكل مضاعف في زيادة نسبة الأمية بين النساء. (في إحدى المدارس الريفية سألتني تلميذة في الصف الرابع: “هل تأذنين لي بالذهاب باكراً هذا الأسبوع للبيت؟”، ولما سألتها عن السبب قالت بأنها ملزمة بتحضير الطعام وأخذه للحقل عند أهلها)!
إن من واجب المنظمات الحقوقية المدنية والجمعيات التنموية المحلية والعالمية منح التعليم الاهتمام الأول مثله مثل الغذاء والصحة، والتركيز على توفير بيئات آمنة للأطفال ليتمكنوا من متابعة الدراسة، كما أن تكون الأحقية في توظيف المساعدات للاجئات واللاجئين في توسيع رقعة المدارس والمراكز التربوية، والاهتمام بتأمين الكادر التعليمي الذي يتبع الأساليب التربوية الحديثة في التعليم، ومراقبة المناهج التعليمية لمنع حقن الأفكار المؤدلجة أو المتطرفة في عقول الصغيرات والصغار أو حتى الأميات والأميين الكبار.
*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة