النظرية النسوية التقاطعية
- تاريخ النشر: 11 أكتوبر 2022
- |
*كبرياء الساعور
لم تسمع جدتي بالنسوية، وهي المولودة في بدايات القرن الفائت، لكنها كانت نسوية في حكايتها وبما صنعته في حياتها ودورها الفاعل ضمن أسرتها، لقد تحدت العنف الأسري وكان رأيها محترمًا من رجال أسرتها، لقد كانت شخصية مؤثرة في مجتمعها المحلي.
لذا فإن التركيز على فئة واحدة من النساء عند الحديث عن كفاح النساء يضيع سرديات حيوات آلاف النساء المؤثرات ضمن دوائر حياتهن المتعددة.
السؤال الذي يطرح نفسه عند التنظير للنسوية من النساء اللاتي نقصدهن أو نخاطبهن؟
هل الأسباب المؤدية لمعاناة وقهر النساء واحدة؟ هل كوننا نساء يعني أن تجاربنا واحدة؟
تعد التقاطعية مفهوم حديث نسبيًا، ولقد ظهرت البوادر الأيديولوجية الأولى مع تشكل النسوية الأمريكية السوداء، التي وجهت انتقادات للنسوية الغربية المهيمنة وخطابها الذي ينكر الاختلافات والفروق الطبقية والعرقية. طرحت العديد من الأفكار والتصورات من قبل نسويات أمريكيات من أصول أفريقية ومن نسويات دول العالم الثالث (النسوية المناهضة للاستعمار)، لكن دون بلورتها في إطار أو نظرية واضحة.
يعود الفضل إلى المحامية الأمريكية من أصول افريقية كمبرلي وليامز كرينشو في صياغة مفهوم التقاطعية، وذلك في ورقتها التي نشرت أول مرة عام 1989 بعنوان “استكشاف الهامش التقاطعية، سياسات الهوية والعنف ضد النساء الملونات” في إطار دفاعها عن النساء الملونات، حيث بينت أن تقاطعات العنف القائم على العرق والجندر يولد مزيد من العنف لكنه يظل عنف غير مرئي.
لقد شرحت كرينشو أن النساء الملونات لا يتعرضن للاضطهاد بسبب الجندر فقط بل بسبب تعدد الهويات الأخرى، لأن تركيز النسوية على الجندر دون الالتفات لتأثير العنصرية ضد الملونين وتقاطعها مع الجندر أدى إلى إهمال قضية العنف ضد النساء الملونات، وتهميش مصالحهن حيث تعاني النساء الملونات من الفقر والبطالة المنتشرة بنسب أعلى في مجتمعات الملونين، الأمر الذي أدى إلى إضعاف النساء وقبولهن بالعنف المنزلي، وترى أن فشل النسوية في مساءلة العنصرية أدى إلى إعادة إنتاج العنصرية، وتهميش قضايا هذه الفئة داخل أجندات الحركات النسوية التي تعتبر قضايا النساء البيض هي المعيار، ولقد تطورت النظرية التقاطعية بعد ذلك لتشمل جميع تقاطعات أشكال الهيمنة والقهر (الطبقة الاجتماعية، العرق، الدين، القومية، الإعاقة، المستوى التعليمي…).
إن التقاطعية بوصفها منهجًا نقديًا تحليليًا يركز على التجارب الإنسانية المختلفة والفئات المهمشة؛ يمكن أن تكون الأقرب لنا كمنظار يحلل ويبين مختلف طبقات الظلم المتداخلة والمتشابكة بعيدًا عن النظر الأحادي.
فهي أداة لسبر الأسس المتعددة للهوية، لكنها ليست دعوى للفصل بين الهويات أو الانغلاق، بل لإثبات أن إدراج التقاطعية يكشف دور العوامل المتعددة والمتداخلة، وكيف تتفاعل فيما بينها لتنتج أشكال التمييز المتعددة والمركبة التي تتعرض لها النساء، وانطلاقًا من أن الحركة النسوية هي حركة تحررية مهما فرقتنا الهويات.
لعل الإنجاز الرئيسي للتقاطعية أنها أصبحت أكثر شمولاً لمختلف الخبرات والحقائق والهويات، لقد انتشر استخدام المنهج التقاطعي في الدراسات والبحوث وفي مجالات معرفية متعددة. وحدث اعتراف دولي بضرورة الانخراط في فضاءات التقاطع، حيث إن الهويات الاجتماعية المشكلة للأفراد يتم فهمها في إطار شامل، بدلاً من النظر إليها في إطار ظواهر معزولة، وذلك لإدماج جميع الفئات بالعدالة الاجتماعية.
ولقد استخدمت اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة في الأمم المتحدة مصطلح (تقاطع أشكال التمييز) والأسباب التي تجعل وصول المرأة للعدالة أشد صعوبة والتي حددتها اللجنة في قائمة طويلة من ضمنها: (العرق، اللون، المركز الاجتماعي-الاقتصادي، اللغة، الإعاقة، اللجوء، التشرد الداخلي…) وذلك في سبيل حماية حقوق النساء على اختلافهن.
لماذا نهتم بالتقاطعية؟
إن التقاطعية وسيلة تمكننا من الرؤية، والاحتجاج على التمييز والظلم في مجتمعنا، وتبين وتعترف بكل أشكال التمييز المتداخلة وتأثيرها السلبي على المرأة السورية، نظرًا لتعقد الواقع السوري.
بعد عقد من النزاع المسلح، تختلف وتتنوع تجارب النساء السوريات، وتتزايد العوائق التي يواجهنها يوميًا على مستويات اجتماعية واقتصادية وقانونية، لذا تختلف تجارب النساء في إدلب عنها في مدينة دمشق وعن النساء في الحسكة أو لبنان أو تركيا. إن تجربة أرملة لاجئة في لبنان تختلف عن تجربة امرأة متعلمة ولديها عمل، لا بل إن تجارب النساء في المكان نفسه تختلف تبعًا للعمر والمعرفة ومستوى التعليم والانتماء الديني والسياسي. تعاني المرأة السورية من أشكال مركبة من التمييز والظلم، فبالإضافة لأشكال الاضطهاد القديمة المعروفة تضاف أشكال جديدة من القهر، واليوم مع انتشار السوريات والسوريين في مختلف دول العالم بسبب التهجير القسري، تبرز قضايا اللجوء من عدم الاستقرار والكفاح اليومي من أجل البقاء، الفقر، تشتت العائلات يضاف إليها الآن الخوف من العودة القسرية، لا يمكن اليوم فهم أوضاع المرأة السورية دون رصد جميع هذه العوامل وتقاطعاتها، والتأكيد أن نضال النسوية السورية متلازم مع النضال السياسي في مواجهة نظام الإبادة، وقد تكون بعض أشكال التمييز غير مرئية لضعف تمثيل فئات واسعة في الحركات النسوية ومنظمات المجتمع المدني، مما يعمق معاناة الفئات المهمشة من النساء، لذا فإن التقاطعية ضرورية لفهم السياق السوري.
تبني المنظور التقاطعي في عمل منظمات المجتمع المدني
من خلال عمل منظمات المجتمع المدني في سوريا والمنطقة العربية التي تعتمد في بعض الأحيان على نشر وتبني المفاهيم الرأسمالية على حساب العدالة الاجتماعية، نتلمس تأثير للنسوية الغربية والسياسات النيوليبرالية لاسيما في مشاريع تمكين المرأة، إن التركيز على بعد من التمييز؛ مثل التمييز على أساس الجندر أو الطبقة أو الدين، بدل النظر إلى الديناميكية التي تحدث عندما تتقاطع محاور التمييز الذي يؤثر على الفئات الأكثر تهميشًا في المجتمع، كما نلحظ أنه من غير المسموح لتلك الجهات بالحديث صراحة في برامجها عن المسؤول الفعلي عن القمع والاضطهاد والتي تشمل النظام السوري والمجتمع الدولي، تحت زعم الحيادية وأنه ليس لديها أجندات سياسية واقتصادية ويدور دائمًا حديث خلف الكواليس بين العاملات/ين في منظمات المجتمع المدني (هيك بدو الداعم)، في حين أن الفئات المستهدفة في هذه المشاريع لا يتم مشاركتها بتحديد الأولويات والاحتياجات ضمن السياقات السورية والمحلية، وهذا ينعكس سلبًا على نضال النساء والأثر المرجو في إحداث تغيير حقيقي. مازالت هذه البرامج تعيد تنميط التصورات عن النساء والتعامل معهن على أنهن ضحايا ومتلقيات للعنف، وتغفل السردية الحقيقية لكفاحهن اليومي، وقدرتهن على التأثير عبر تجاربهن الحياتية المختلفة والمتنوعة.
إن اعتماد المقاربة التقاطعية في عمل منظمات المجتمع المدني يسهم في مكافحة الإقصاء، كما يسهم في تحقيق العدالة، ويدفع تلك المنظمات إلى تبني برامج تستجيب لاحتياجات النساء الواقعية والفعلية على اختلاف مواقعهن، بدلاً من فرض برامج جاهزة تنظر للنساء ككتلة صماء واحدة، كما ينمي هذا النهج فرص التضامن والعمل بين منظمات المجتمع المدني في إطار تحالفات وتكوين شبكات تستند إلى الوعي بأشكال التمييز وعدم المساواة. تقدم التقاطعية وعود في تفكيك أشكال التمييز المتعددة، ولكن ذلك ليس بالأمر السهل فمفهوم التقاطعية حديث نسبيًا ويستلزم العمل عليه مطولاً في السياق السوري.
*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية