تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية على الملف السوري

العودة للإمبراطورية الروسية:

تحاول روسيا، التي حكمها بوتين منذ عام 2000 حتى يومنا هذا، أن تستعيد مجد إمبراطوريتها في المجتمع الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وكأي حكم شمولي؛ سخر بوتين طاقات وموارد البلاد لبسط نفوذه والسيطرة على الدول المجاورة لمحيطه في محاولة منه للتدخل في أنظمة الحكم لجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة لتصبح موالية له، منطلقًا من الفكرة الشعبوية عن الهوية الروسية والحزام الأوراسي، هذا ما حدث في الشيشان عام 2009 وبعدها اعتراف بوتين باستقلال منطقتي “أوسيتيا الجنوبية” و”أبخازيا” اللتان تشكلان حوالي 20% من الأراضي الجورجية مع الاحتفاظ بوجود عسكري روسي كبير فيهما، الأمر الذي عبر عنه الرئيس الجورجي أنه تساهل من الغرب! ورغم تنديد وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيدريكا موغريني بهذا الوجود واعتباره انتهاكًا للقانون الدولي يتوالى التمدد الروسي فيما بعد ليضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014، والتي كانت من نتائج الاضطرابات الواسعة في جنوب وشرق أوكرانيا. 

 استنكر المجتمع الدولي هذا الضم، واعتبره انتهاكًا للاتفاقيات الموقعة عليها روسيا وأوكرانيا والتي تقتضي بموجبها الحفاظ على وحدة الأراضي الأوكرانية. لكن شعور بوتين بالعظمة وحلمه الإمبراطوري وطموحه بعودة روسيا القيصرية، فهو لا يؤمن بالقيم الغربية مثل الديمقراطية والليبرالية وغيرها التي تتنافى مع مفهومه للدولة التي يرى فيها السلطة التي تحمي استقرار الدولة وتحافظ على سيادتها.

 

الانقسام العالمي مجددًا:

وهكذا بدأ بوتين بحشد الجيش الروسي لاحتلال أوكرانيا الدولة المستقلة ضاربًا بالاتفاقيات الدولية عرض الحائط، وأعد الهجوم السافر على دولة مستقلة مما أثار حفيظة الغرب والأوروبيين لما له من تداعيات خطيرة من حيث الموقع الجيوسياسي الذي تحتله أوكرانيا كمنطقة تماس حسّاسة بين روسيا من جهة وأوروبا وباقي دول حلف الناتو ودول أخرى من جهة ثانية.

أعاد هذا الحدث العالم للانقسام بين معسكرين مثلما كان أيام الحرب الباردة بين روسيا وأمريكا، إذ راهن بوتين أن الحرب على أوكرانيا ستكون مثل بقية الاحتلالات في توقع أن الأوكرانيين سيستقبلون الجنود الروس بالورود، معولاً على الانقسام الغربي وقادرًا على إجبار الغرب للتفاوض معه معتمدًا على الوقود والغاز الروسيين كأدوات ضغط على الأوروبيين، كما تراءى له أنه سيفرض شروطه معتمدًا على التنوع الإثني للشعب الأوكراني. 

 

إحياء الملف السوري: 

في السياق السوري والذي لا يقل أهمية عن الملف الأوكراني لأسباب جيوسياسية، والذي اعتمدت روسيا عليه لتعود إلى الواجهة في الساحة الدولية كقوة عظمى في غياب الاستراتيجيات المحلية والدولية في سوريا التي ستكون منطقة استقرار لتداخلاتها في الشرق، بعد فشلها الذريع في ليبيا، والتغاضي العالمي عن سيطرة بوتين على سوريا، الأمر الذي أدى لمآلات الحرب في أوكرانيا اليوم، كما ساعدتها حكومة دمشق في ذلك إذ تعود علاقات البلدين وولاء الأخيرة لموسكو إلى الحقبة السوفيتية.

 وبالفعل كانت روسيا، خلال عقد من الزمن، الداعم الرئيسي لحكومة دمشق والتي وضعت ثقلاً لا يستهان به للحفاظ على نظام بشار الأسد، كما عطلت مسار الحل السياسي بعدم الضغط على النظام السوري للالتزام بالقرارات الدولية، الأمر الذي حرف مسار جنيف وحوله إلى مسار أستانة وسوتشي.

 

أثر الضغوطات الغربية على وجود روسيا في سوريا:

لكن التحرك السريع و الموحد لأوروبا وحلف الناتو مجتمعين شكل ضغطًا للحيلولة دون  التمدد الروسي في أوكرانيا من خلال فرض العقوبات على روسيا والإجراءات العديدة الأخرى التي من شأنها إضعاف النفوذ الروسي في أماكن تواجده ومنها سوريا، حيث بدأ الروس بشكل فعلي بالانسحاب من بعض المواقع من سوريا مثل سحبهم لعشر طائرات حربية من قاعدة حميميم وأيضًا عناصر من قواتهم المتمركزة في مناطق أخرى من سوريا، الأمر الذي سينعكس أيضًا على إضعاف النظام السوري في غياب وانشغال حليفه الرئيسي عنه، لا بل وسيتيح  للتمدد الإيراني في الأراضي السورية أكثر من ذي قبل.

ولما كانت محاولات الغرب لإضعاف الاقتصاد الروسي المنهك من جراء الحرب على أوكرانيا وبالتالي تأثيره بوتيرة ما على تواجد النفوذ الروسي في المنطقة كان يجب حشد الدول العربية لتزيد من إنتاج غازها ونفطها وإرسالها لأوروبا لتكون بديلاً عن الغاز الروسي، نأت السعودية والإمارات بنفسيهما عن الأزمة الروسية-الاوكرانية، بينما اتخذت أغلبية الدول العربية موقف الرفض للعدوان، بالإضافة إلى أن تلك المحاولات قد تساهم في إيقاف المد الإيراني الذي لن يمانع النظام السوري من الاستناد عليه كبديل للحليف الروسي.

كما لاحت في الأفق محاولات الأمريكان لتوحيد مناطق النفوذ التركية ومناطق التحالف الدولي من أجل الضغط على النظام السوري وأيضًا للحد من التوغل الإيراني، وما تزال هذه المحاولات غير مجدية بسبب مخاوف تركيا وتوجسها من وجود قسد على تماس مع حدودها لتبقى هذه الخطوة رهن النضوج إلى أن تتم تفاهمات أخرى حول الوجود العسكري المتعدد في هذه المناطق.

 

الأزمة السورية رهينة التفاعلات الدولية:

 مما لا شك فيه أن الملف السوري ما زال رهينة النزاعات الدولية والإقليمية وأن الحل السياسي سيبقى معلقًا تبعًا لمصالح هذه الدول التي تتأرجح وفقًا لحالة التفاهمات والتوافقات بين الدول الفاعلة في الملف السوري، وأيضًا ستظل رهنًا لمآلات الصراع الروسي-الأوكراني ومدى قدرة الولايات المتحدة وروسيا على فصل مسارات تفاعلاتهما عن بعضها البعض سواءً في أوروبا أو في الشرق الأوسط.

وهنا لا بد من التركيز على العودة للقرارات الأممية، خاصة القرار الأممي 2254، وإشراك السوريات والسوريين في العملية السياسية معتمدين العدالة الانتقالية، العودة الطوعية والآمنة للاجئات/ين، إنهاء كافة أشكال التغيير الديموغرافي والاحتلالات في سعي لإنهاء مأساتهن/م وحقهن/م في تقرير مصيرهن/م.

 

اللجنة السياسية في الحركة السياسية النسوية السورية