عنف الولادة، انتهاكات مستمرة في مشافي إدلب

 

*سلوى عبد الرحمن 

 

“لسى مبسوطة وبدك تشوفي الولد؟ التهي بحالك وشوفي دمك بالأرض لوين وصل.”

تروي نسرين (41 عاماً)، أم لثلاثة أطفال، من مدينة إدلب تفاصيل ولادتها في مشفى إدلب الوطني قبل خروج المدينة عن سيطرة نظام الأسد بثلاثة أعوام. حين فحصتها القابلة أكدت لها أنها على وشك الولادة، وافقتها نسرين التي أكد لها طبيبها المتابع لحملها قبل أسبوع أنها أنهت شهرها التاسع، ومن المحتمل أن تلد ولادة قيصرية كما ولدت ابنها الأول، ورغم معرفة القابلة أنها من سوابق القيصرية أعطتها دواء لتسريع عملية الولادة. بقيت نسرين في المشفى قرابة الساعتين حتى أتى موعد الولادة، دخلت غرفة “التشريح” على حسب قولها، واصفة غرفة المخاض، وهي المرة الأولى التي ستخوض فيها الولادة الطبيعية مع قابلة وممرضة.

 

عمليتان بعد الولادة

“استغرقت ربع ساعة فقط في غرفة المخاض حتى ولدت، ولدت إثر الضغط الكبير على بطني الذي خلف لي بعدها فتقاً في أعلى السرة، وأذكر تماماً لحظة خروج طفلي وسماع صوته، قلت في نفسي وأخيراً ولدت وانتهيت، لكن القابلة بدت مرتبكة، فاعتقدت أن الطفل قد أصابه شيء لذلك طلبت منها مشاهدته، فصرخت بوجهي غاضبة: “لسى مبسوطة وبدك تشوفي الولد؟ التهي بحالك وشوفي دمك بالأرض لوين وصل”.

“حين نظرت إلى المكان الذي أشارت إليه كان الدم يجري وكأنه دم أضحية، بدأت أصرخ وأسألها وأنا أبكي بشكل هستيري فهميني شو صار؟ بدأت تصفعني على وجهي بشدة، اعتقدت حينها كي لا أغيب عن الوعي، نقلوني مباشرة على غرفة العمليات بسبب تمزق في عنق الرحم وانفتح جرح العملية القيصرية السابقة، دخلت غرفة العمليات وبدأت ممرضة أو قابلة أخرى، لم أعرف حقيقة توصيفها، بخياطة التمزق من الأسفل دون بنج، الخيوط التي وجدتها بعد عناء وأنا أنزف، كان كل شيء حولي لونه أحمر، وكان صوت أنيني من الألم يصل لوالدتي التي تبكي في الخارج، كما أخبرتني بعد ذلك أختي التي لم يسمحوا لها بمرافقتي”.

رغم مرور السنين تكمل نسرين: “ما زلت أشعر بألم خياطة جرح تمزق المهبل دون بنج، إضافة لتأخر طبيب التخدير في القدوم إلى المشفى، لتصادف موعد ولادتي مع يوم الجمعة، وأغلب الكادر الطبي المناوب في قسم النسائية هن من القابلات والممرضات. خدرني الطبيب تخديراً عاماً لأخرج بعد أكثر من ساعة من غرفة العمليات كجثة هامدة تحمل كيس دم في يد والسيروم في اليد الأخرى إضافة إلى القثطرة البولية في الأسفل، بجملة (يا أمي رمموني ترميم) كنت أرددها قبل التخدير وبعده. حين سألت أمي الممرضة عن آثار الازرقاق على خدي ردت أنه بسبب البنج، لكني لم أكن أستطع حينها التحدث لأخبرهم أنه أزرق نتيجة صفع الممرضة في غرفة التشريح”.

القابلة القانونية ضياء تعمل منذ أكثر من 15 عاماً في التوليد، تتحدث عن ضرورة الحدة أحياناً في مخاطبة السيدة المقبلة على الولادة فتقول: “أحياناً يكون من الضروري العنف في نبرة الصوت، خاصة في لحظة اتساع عنق الرحم ونزول رأس الطفل والتي تعد أصعب مرحلة في الولادة، إذ تحتاج لعزم قوي من السيدة لدفع الجنين للخارج، وقد لا تكون السيدة متعاونة بسبب شدة الألم أو صغر السن في هذه الحالة قد تعرض حياة طفلها للخطر، ما يجبر القابلة أو الطبيب/ة المولدة للضغط على الرحم، وهو إجراء مؤلم، وأحيانا تقوم السيدة بإغلاق ساقيها على رأس الطفل، وهنا قد تنفعل القابلة جداً، وتطلب المساعدة من الأشخاص المتواجدين معها على فتح ساقي السيدة لحين إتمام الولادة بسلام، كل هذه الإجراءات تتم نتيجة قلق القابلة على الطفل من حدوث مخاطر قد تحيق به”.

 

تأفف وإهانات لفظية وقلة الرعاية الصحية… عنف مستباح في المشافي المجانية

يعد العنف المرتبط بالولادة من أكثر أنواع العنف انتشاراً في العالم، وهو بحسب تعريف منظمة الصحة العالمية: الاستيلاء على جسد المرأة من قبل العاملات/ين الصحيات/ين، في شكل علاج غير إنساني وإضفاء الطابع الطبي التعسفي، وإضفاء الطابع المرضي على العمليات الطبيعية، بما في ذلك فقدان المرأة القدرة على اتخاذ قراراتها بحرية بشأن جسدها.

خلف أبواب غرف المخاض في إدلب تتعرض كثير من النساء، قبل وبعد الولادة، لأشكال متنوعة من العنف، خاصةً في المشافي العامة من قبل الكوادر الطبية من طبيبات/أطباء وممرضات/ين وقابلات، إلا أن معظم النساء المقبلات على الولادة لربما لا يدركن أن ما يتعرضن له هو نوع من أنواع العنف، الذي يكون غالباً ضمن أشكال الإيذاء الجسدي أو الإهانة اللفظية واللكم والقرص والصراخ بوجههنَّ وانتهاك الخصوصية والاستخفاف بالآلام وإهمال الرعاية الطبية للأم والجنين.

تؤكد القابلة ضياء: “أثناء عملي بالمخاض أو في أماكن أخرى في المشافي لسنوات طويلة، شاهدت قابلات وطبيبات وأطباء يستخدمون العنف ضد السيدات أثناء الولادة مثل التفوه بألفاظ نابية، وأكثر الألفاظ التي توجه لهنَّ (المهم لبستي فستان أبيض هي نتيجته أو هي نتيجة الجواز والحمل)، ما يزعجني أنه في بعض الأحيان يقومون بضرب السيدة ضرباً مبرحاً أو إغلاق فمها بقوة كي لا تصرخ، كما شاهدت كثيراً من القابلات يقمن أثناء خياطة العجان بلقط الشفر للسيدة لكي تهدأ”.

وبحسب نتائج الاستبيان الذي أجرته الصحفية “منيرة بالوش” ضمن تحقيق لفوكس حلب مؤخراً على 120 امرأة خضن تجربة الولادة في مستشفيات محافظة إدلب؛ كشفت أن أكثر من نصف نساء العينة تعرضن لاستخفاف بآلام ولادتهن وهنَّ في أشد اللحظات ضعفاً، وأن ثلث هؤلاء النساء تعرضن لإهانات لفظية مباشرة وزجر وسوء معاملة أثناء وضعهن مواليدهنَّ. وشملت نتائج الاستبيان ذكر عبارات محددة سمعتها النساء على سبيل اللوم والزجر والإهانة.

كما أظهرت نتائج الاستبيان أن ارتفاع مستوى الشهادة الطبية يلعب دوراً كبيراً في أسلوب معاملة المرأة الحامل، إذ يظهر الاستبيان أن حوالي ربع النساء تعرضن لتلك الإهانات اللفظية على يد القابلة القانونية، تليها نسبة 21 في المئة كانت من قبل الممرض/ة، و18 في المئة من قبل الطبيب أو الطبيبة، بينما ذكرت 14 في المئة من النساء أنهن تعرضن لتلك الممارسات من قبل جميع الكادر الطبي ومقدمي الرعاية، طبيبات/أطباء وممرضات/ين وقابلات.

 

“مازلت أشعر بألم في رحمي كلما رأيت شبيه هذه الخواتم في محال الذهب.”

 

رغم مرور سنوات على قصص كثير من النساء اللواتي تعرضن للعنف أثناء الولادة، يبدو أن المنظمات الطبية والمنظومات الصحية الجديدة في إدلب لم تتمكن من تغيير أساليب العنف المتبعة من قبل الكوادر الطبية مع النساء المقبلات على الولادة في المشافي العامة.

فلرنيم تجربة مع العنف سمتها “قلة أخلاق ودين” قبل طرح الأسئلة عليها.

مع تزايد ألم انقباضات الرحم (الطلق) لدى رنيم كان مشفى السلام للتوليد في إدلب هو وجهتها، وهو مشفى مجاني يتبع لمنظمة غير حكومية، تم إغلاقه قبل عامين ونقله للزهراوي مع تغيير في غالبية الكادر الطبي، وهو حالياً من أفضل مشافي التوليد من وجهة نظر النساء، ينصحن بعضهن به على مجموعات التواصل الخاصة بهن.

تقول رنيم: “حين دخلت للمشفى برفقة أختي لا صوت يعلو فوق أصوات آلام النساء، صرخاتهن تتعالى قبل وأثناء دخولهن لغرف المخاض”.

 “كانت القابلة، تلبس بيدها خواتم ذهبية كبيرة وأساور من نوع (المباريم)، طبعاً كانت ترتدي قفازات طبية، حين أدخلت يدها في مهبلي وفيها هذه الخواتم لتصل إلى عنق الرحم لفحص جاهزيتي للولادة شعرت بألم كبير كتمته بإغلاق فمي، ما زلت أشعر بألم في رحمي كلما رأيت شبيه هذه الخواتم في محال الذهب”.

 

غرف الفحص النسائي خصوصية غائبة

“ثلاث ممرضات وقابلة في غرفة الفحص، كلما سحبت الغطاء فوقي ترفعه القابلة، وكأنه أمر طبيعي أن تراني كل من تراجع الغرفة لحاجة لها فيها”.

تتابع رنيم: “انتهى الفحص لم تخبرني أي شيء بعد تكرار السؤال (متى سألد؟ ابقى هون ولا أرجع للبيت؟)، لترد بعد عناء كبير برؤوس شفتيها بكلمات بالكاد فهمتها منها: (لا تروحي مانك مطولة)، ثم التفتت لأختي وقالت: (جيبيلها هاد الدوا وأعطيها إياه) لم نعلم كلتانا ما هو ولماذا هذا الدواء، وخفنا أن نسألها وترمقنا بذات النظرات، بدأت أتمشى في (كوريدور) المشفى بعد أن شربت الدواء وعلبة من زيت الخروع، وهو زيت يزيد الدفع لدى النساء أثناء الولادة”.

 تنهدت رنيم لتخبرنا أن حكاية ولادتها لم تبدأ بعد، مرت ساعة ونصف تقريباً، تزايدت لديها الانقباضات ولم تعد تحتمل الألم حسب وصفها، أرسلت أختها لتخبر الممرضات بحالتها لكن ولا واحدة أتت معها وكن يقلن لها هذا ليس (طلق).

 

“حينها أدركت أنني ولدت في بنطالي، وأنا واقفة ومنحنية على بطني، لأخفف من ألم الانقباضات التي كانت تأتي كل ثانية”.

 

تكمل رنيم “تقيأت في كوريدور المشفى بسبب الطعم السيء لزيت الخروع، لتأتي الممرضة والمستخدمة عابستان غاضبتان، تصرخان عليَّ وأنا في أضعف حالاتي، فأجابت اختي (أنا بنضف الأرض بس الله يوفقكن شوفوها)، نظرتا ببعضهما بقرف واشمئزاز لترد واحدة منهما جيبيها على غرفة الفحص، توالت الانقباضات حتى أصبحت متقاربة كل دقيقة تقريباً وبت عاجزة عن المشي إلى غرفة  الفحص، تعالت صرخاتي التي لم أعد قادرة على حبسها أكثر لتجتمع حولي النسوة المراجعات في غرفة الانتظار، حينها أدركت أنني ولدت في بنطالي، وأنا واقفة ومنحنية على بطني، لأخفف من ألم الانقباضات التي كانت تأتي كل ثانية”.

تختم رنيم قصتها بابتسامة خفيفة بدت على وجهها: “المضحك في الأمر أنهن حين أتين وأدخلنني غرفة المخاض لتنظيف الرحم كانتا تتناقشان حول موعد زيارة مشتركة لصديقتهما التي ولدت مؤخراً، وطلعوا كمان بيفهموا بواجب الولدانة”. 

توصي القابلة ضياء: “أقترح بأن يتم تثقيف السيدات عن الحمل والولادة منذ بداية الأشهر الأولى لكيلا تتفاجأ أو تحاول التأقلم مع هذه المشاكل، يجب مشاهدة أفلام عن الولادة وخزع العجان والسؤال عن تجارب ولادات سابقة”.

 

إن من الواجب على كل قابلة أو طبيب/ة إعطاء شرح وافي للسيدة عن طريقة ولادتها، سواءً كانت طبيعية أو قيصرية والإجراءات التي تتم أثناءها، فهو حق من حقوقها. إضافة لتقديم الدعم النفسي للسيدة أثناء فترة المخاض فهذا يخفف من وطأة ألمها، ويجب سؤالها إذا ما كانت تحبذ وجود أي شخص بجانبها في غرفة المخاض.

إن الشهادات المؤلمة للأمهات اللواتي قابلتهن لإنجاز هذا المقال حول ماتعرضن له من عنف في غرف الولادة، تؤكد أن المعنِفات غالبيتهن من الكوادر النسائية اللواتي أرى أن الرادع الوحيد لهنَّ يتمثل بعدة نقاط أساسية منها: تفعيل نظام المراقبة في كل مشافي التوليد ومحاسبة كل من يتسبب بخطأ طبي أو إساءة تضر بالأم أو الطفل، وتوعية النساء بحقوقهنَّ قبل الإقبال على الولادة، بهدف حمايتهن من العنف بكل أشكاله قبل وبعد الولادة، وعدم تجاهل الشكاوى المقدمة من النساء للإدارة أو من خلال صندوق الشكاوى.

هذا بالضرورة يفرض على إدارة المشافي زيادة توعية الممرضات والقابلات بالدرجة الأولى بأهمية دعمهن للنساء في غرف المخاض من الناحية النفسية والجسدية، وأن لا مبرر لهن ليمارسن العنف بأي شكل من أشكاله حتى وإن كان بنبرة الصوت التي ذكرتها ضياء، فوضع النساء الجسدي والنفسي والصحي يتطلب تعاوناً  ومراعاة من كل الأطراف. 

 رغم أن معظم الأمهات اللواتي روين لنا قصص تجاربهن في رحلة الولادة كانت في المشافي العامة، لكن لايعني أن اللواتي يلدن في المشافي الخاصة هم أفضل حالاً، لكن من المؤكد أنهن حظين على جزء أكبر من الرعاية الطبية والاحترام فيها، لأنهن دفعن المال مقابل ولادة آمنة.

ختاماً إن رحلة التعب في الأشهر التسعة تنساها أغلب الأمهات لحظة دخولهن غرف المخاض، ولا يبقى منها في ذاكرة الأمهات سوى ندبة في أجسادهن، هذه الندبة إما أن تكون ذكرى ولادة روح أخرى تحمل السعادة بكل تفاصيلها، أو تحمل بطياتها الألم لما تعرضت له في تلك الغرفة من انتهاكات، تستذكرها مدى الحياة.  

 

 *كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية