ما مصير المعتقلات/ين والمخفيات/ين بعد صدور العفو المزعوم؟

*سحر حويجة

 

مع صدور المرسوم رقم 7 لعام 2022، الذي تضمن عفوًا عامًا عن الجرائم الإرهابية المرتكبة من السوريات/ين قبل تاريخ 30 /4/2022 باستثناء الجرائم الإرهابية التي أفضت إلى موت إنسان، المنصوص عنها في قانون مكافحة الإرهاب رقم 19 لعام ،2012 وقانون العقوبات الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 49 لعام 1949.

سيطر خبر العفو المزعوم، على كل ما عداه من أخبار ساخنة، خاصة أنه صدر عقب مجزرة التضامن التي هزت ضمير البشرية، وأصابت الناس بالذهول والخوف، وأكثر ما أخافهم أن يكون مصير المغيبات/ين قسريًا، والمعتقلات/ين انتهت إلى حفرة، على يد ضباط وعناصر لا رادع يردعهم من قانون أو أخلاق أو ضمير؟ 

إن ذوي المعتقلات/ين والمغيبات/ين قسرياً، ينتظرون يبحثون ويسألون عنهن/م دون كلل مصدقين الإشاعات، وكثيرًا ما يقعون ضحايا الابتزاز المالي الذي يزداد مع إصدار مراسيم العفو. هرع الأهالي إلى الساحات والشوارع وفق ما أشيع إنها أماكن معدة لوصول المعتقلات/ين، أسلوب يشير على استهتار السلطات بمشاعر وكرامة المعتقلات/ين حين يتم رميهن/م بالساحات من دون قوائم تعريف بأسمائهن/م، كأنهن/م بلا هوية ولا مكان يذهبون إليه لعل وعسى يجدون من يعرفهن/م أو يدلهن/م على أماكن وجود أهلهن/م، أو يستقبلهن/م مؤقتًا.

ساحة استقبال المفرج عنهم، كانت مناسبة لذوي المعتقلات/ين للسؤال عن بناتهن/أبنائهم المغيبات/ين من عشر سنوات وأكثر، عسى ولعل أحداً من المفرج عنهن/م التقى بها/به، مشهد ساحات الاستقبال كان مؤثرًا ومعبرًا يكشف عن الأعداد الكبيرة للمعتقلات/ين وأعداد الأهالي المكلومين، ويحكي قصة تحمل الأهالي لمشقة السفر والانتظار أيامًا في نفس المكان على أمل اللقاء أو سماع خبر عن أولادهم، وبدأ عدّاد المختفيات/ين والمعتقلات/ين يعلو ويهبط حسب المصدر، هناك 300 ألف معتقل/ة ومغيب/ة وفق مجلس المعتقلين والمعتقلات السوريين، بينما تحدثت الشبكة السورية لحقوق الإنسان عن 130 ألف مغيب/ة ومعتقل/ة موثقة أسمائهم/ن، 90 بالمائة منهم/ن مخفيين قسريًا.

تمت عملية الإفراج عن المعتقلات/ين بالقطارة وعلى دفعات، في إحصاءات توثق أسماء المعتقلات/ين المفرج عنهن/م، لم يتم الإفراج سوى عن 600 معتقل/ة؛ وذلك بعد انتهاء المدة المعلنة من قبل الجهات المعنية للإفراج عن المعتقلات/ين التي امتدت قرابة الشهر. رقم المفرج عنهم قابلاً للزيادة طبعًا حيث يوجد هناك ملفات يجب أن تعرض للقضاء قبل البت بها من قبل محكمة الإرهاب. 

ونتيجة الهوة الكبيرة بين عدد المفرج عنهن/م والعدد المفترض أن يتم الإفراج عنهن/م، وقبل أن يتم الاستثمار بالعفو من قبل النظام، عقد مجلس الأمن الدولي جلسة بشأن المعتقلات/ين والمغيبات/ين قسريًا في سوريا بناءً على طلب من الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا وألبانيا، التي طالبت النظام السوري بالإفراج عن المعتقلات/ين وكشف مصير المغيبات/ين، في إشارة إلى أن العفو المزعوم ليس حقيقيًا.

 أثناء جلسة مجلس الأمن طالبت سفيرة أمريكا ليندا توماس، بالكشف عن أسماء 130 ألف مفقود/ة او معتقل/ة تعسفيًا، وهو العدد المعلن من قبل الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وطالبت النظام أن يقدم قوائم بأسماء المفرج عنهن/م، وأسماء المتوفيات/ين، إضافة إلى أسماء السوريات/ين في الخارج الذين ينطبق عليهم العفو، ودعت لمراقبة السجون والسماح لجهات خارجية بالوصول الفوري إلى مراكز الاحتجاز، وأكدت على أنه لن يسمح للنظام السوري بالتظاهر بالإفراج عن المعتقلات/ين لتحقيق مكاسب سياسية. وهنا مربط الفرس ما هي المكاسب السياسية التي يسعى إليها النظام من خلال إصدار العفو المزعوم؟ 

ما زال النظام السوري يحاول الاستفادة من التناقضات العربية والدولية والمواقف الضبابية تجاه الحل في سوريا، من المعروف أن أمريكا لا تسعى إلى تغيير النظام بل تريد تغيير سياساته، هذا التعبير المطاط، ينطوي على مطالب سياسية حمالة أوجه، وتختلف أهميتها وأثرها على النظام، هل تغيير علاقته بإيران كافية؟ أم المطلوب منه الخضوع الكامل للقرارات الدولية ومنها القرار 2254؟ أم تكفي مجرد تنازلات جزئية وشكلية؟ وهذا ما يرمي إليه النظام بهدف تحسين صورته، فكان صدور القانون رقم 16 لعام 2022 الذي يقضي إلى تجريم التعذيب، وبعدها العفو العام.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الإفراج عن المعتقلات/ين حتى إلى درجة تبييض السجون، لا يعني أن النظام غير سياساته وتحول بتجاه الديمقراطية، أو أنه أشاع الحريات. حيث لجأ النظام في بداية حكم بشار الأسد إلى تبييض السجون، عندما لم يجد خطراً من المعارضة المنهكة بعد سنوات طويلة من الاعتقال، لمزاعم الإصلاح ومحاولة منه لكسب الشارع، بغاية إعادة إنتاج النظام. 

من جهة أخرى تزامن العفو مع انقسام عربي ودولي حول مسألة تعويم النظام، المدعومة من قبل بعض الدول العربية وروسيا وإيران، لإيجاد مخرجًا للأزمة الاقتصادية الخانقة وتحقيق مكاسب سياسية بالترويج لقضية عودة اللاجئات/ين وإعادة الإعمار، من دون تقديم تنازلات سياسية تذكر لحل القضية السورية. لكن الانقسام العربي والدولي حول مسألة تعويم النظام، أحرج الطرف الداعم، على أنه من غير المقبول التعامل مع النظام من دون إجراء تغييرات في سياساته يقبلها المجتمع الدولي. في هذه الأجواء برز الموقف الأمريكي الرافض تعويم النظام مع ارتفاع نبرة التصعيد والضغط من زاوية حقوق الإنسان والمحاسبة عن الجرائم المرتكبة من قبل النظام، ورفض التطبيع مع النظام وإعادة تأهيله. كانت جلسة الاستماع في الكونغرس الأمريكي في 8/6، حيث تحدث الشاهد حفار القبور عن الفظائع التي شهدها كواحد من العمال المدنيين في مقابر جماعية معدة لضحايا التعذيب في السجون السورية، ولمعتقلات/ين تم إعدامهن/م في صيدنايا من عام 2011 حتى عام 2018، كل أسبوع كان يتم دفن ما يقارب الألف جثة لمدنيات/ين ضحايا التعذيب والموت في السجون في مقابر جماعية، والتي ما تزال قيد الحفر حتى اليوم. ربما هذا يشير إلى أن أمريكا تستعد لفرض عقوبات جديدة ورفع درجة الضغط ضد النظام السوري. 

قبل ذلك جاء إعلان غير بيدرسون عن خطة جديدة تتمثل بسياسة الخطوة خطوة، التي تعني تنازلات أو تغيير موقف هنا أو هناك، يؤثر إيجابيًا في عملية التفاوض.  كان من الصعب تصور ترجمة فكرة الخطوة خطوة إلى واقع حيث رفضت هيئة التفاوض المعارضة بداية قرار غير بيدرسون، بسبب عدم معرفة مقاصده. لابد أن الأزمة الأوكرانية أيضًا ألقت بظلالها على الواقع السوري بعد أن استحوذت المسألة الأوكرانية على الاهتمام الروسي واستغراقها بالمستنقع الأوكراني، بما يبعدها عن الملف السوري، وحاجة روسيا إلى عدم استخدام الساحة السورية للضغط عليها، فأخذت تسحب قواتها من سوريا. كل هذه الوقائع تشير إلى أن الطوق على النظام ازداد، وليس أمامه سوى تقديم تنازلات، وإن كانت لم تظهر حتى اليوم سوى بخطى وئيدة وشكلية.

غير أن الكثير من المحللات/ين ربط تزامن صدور العفو مع فضيحة مجزرة التضامن، للتغطية على الضجة التي أعقبت الفضيحة. من ناحية، صحيح أن العفو كان وسيلة لتحويل الاهتمام عن المجزرة، لكن في الوقت نفسه كيف يستفيد النظام من المجزرة ويوظفها لمصلحته؟ هذا ما أراه عاملاً مهمًا، إن عفوًا عامًا سوف يكشف عن الأعداد الكبيرة للمغيبات/ين الذين قضوا تحت التعذيب ولم يظهر لهن/م أثر ولم يعرف مصيرهن/م، -خرج ولم يعدـ وبالتالي مجزرة التضامن ستكون واحدة من آلاف المجازر الشبيهة، اعتقالات تعسفية على الحواجز، وقتل المعتقلات/ين من دون تحقيق، ضحاياها مدنيات/ين أبرياء، نعم مجزرة التضامن تساعد النظام في التخلص من عبء المسؤولية، بـأن يتملص النظام من المسؤولية ونقل عبئها لأفراد وعناصر من الأمن والجيش على أن قرارهم كان فرديًا، النظام لا يعلم به، وغير مسؤول عن الجرائم التي ارتكبوها، وكم مرة تخلص النظام من أفراد ومن مقربين مهما قدموا من خدمات له في سبيل استمراره ومصلحته، ومصالح الدول الداعمة له؟ 

اتبع النظام وسائل متعددة للتغطية على جرائم القتل والتعذيب في المعتقلات أهمها: أولاً: اللعب على عامل الزمن وانتظار المناخ السياسي الداعم لاستمراره في السلطة.

ثانيًا: عسكرة الانتفاضة منذ بداية الانفجار الثوري، طالت الاعتقالات المتظاهرات/ين والناشطات/النشطاء والمعارضات/ين السلميات/ين، حيث قضى الكثير منهن/م تحت التعذيب، وقد كان النظام يسلم الجثث إلى ذويهن/م، في رسالة فاضحة عن مصير كل من يتجرأ في قيادة الحراك الثوري ضد النظام، كما حصل مع غياث مطر وغيره الكثير. غير أن التحول إلى العسكرة شكل طوق نجاة للنظام حتى يتخلص من معارضيه بقتلهم، سواء بالقنص والقتل العمد، أو التعذيب حتى الموت، وأحكام الإعدام. كما تحول الاعتقال بعد العسكرة، إلى وسيلة للقضاء على الحاضنة الاجتماعية في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام وأصبح شائعاً الاعتقال على الهوية المناطقية والطائفية.

لقد استغل النظام حالة الاقتتال، ليقوم بفعل القتل لأتفه سبب أو بدون سبب، لذلك من لم يوثق اعتقاله/ا، سيكون سهلاً على النظام رفع مسؤوليته عنه/ا، والتنكر له/ا. 

كما أن النظام استخدم ملف المعتقلات/ين والمغيبات/ين، خلال التسويات والهدن ومناطق خفض التصعيد، التي تمت في الأستانة، حيث كانت المفاوضات التي تجري بين المعارضة والدول الضامنة تضع بند المطالبة بالمعتقلات/ين في مقدمة المطالب، وكانت المفاوضات الداعية لخفض التصعيد التي جرت بين المعارضة المسلحة والروس، قد علقت وفشلت أكثر من مرة في منطقة ريف حمص الشمالي، على خلفية عدم تحقيق مطلبهم بالإفراج عن المعتقلات/ين من أبناء هذه المناطق. 

كان النظام يضع شرطًا قبل البدء بتنفيذ أي اتفاق للإفراج عن المعتقلات/ين يقضي بتعهدهن/م عدم تحريك دعاوى.

 

المعتقلات والمعتقلين في أروقة المفاوضات

منذ جنيف 1 في عام 2012، ثم جنيف 2، تم النظر إلى الملف الإنساني على أنه غير قابل للتفاوض، بل هو إجراء ضروري لبناء الثقة، وعلى ضرورة فصل المسار الإنساني عن السياسي، لغاية الإسراع بتنفيذ الملف الإنساني حتى لا يكون موضوعاً للمساومة. غير أنه مضت أكثر من عشر سنوات على قرارات مؤتمر جنيف الأول، وأكثر من سبع سنوات على القرار 2254 ومازال الملف الإنساني عالقًا ويتم ترحيله مع الملف السياسي والعسكري أينما حل من جنيف إلى الأستانة. بالنسبة إلى النظام فإن قضية المعتقلات/ين بقيت قضية سياسية بامتياز، وحلها لا ينفصل عن قبوله بحلول سياسية رضاءً أو فرضًا. 

إن الإفراج عن المعتقلات/ين غير المشروط، كما ورد في القرار 2254 ستكون من وسائل إضعاف النظام وزعزعة كيانه، ولن تتم إلا رغمًا عنه، بالضغط وتطبيق القرارات الدولية بالقوة. حيث أن الإفراج عن المعتقلات/ين سيفتح على النظام أبوابًا لن تغلق إلا بمحاكمة المسؤولين عن الجرائم التي لحقت بالمعتقلات/ين. يسعى النظام في قضية التحكم بملف المعتقلات/ين إلى حماية نفسه من المساءلة عن الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها والجرائم ضد الإنسانية التي اقترفها في أقبية التعذيب. 

إلا أن ما تم كشفه حتى اليوم من وثائق من الصعب التنكر لها، نذكر أهمها: 

1 ـ صور قيصر، الذي سرب أكثر من 50 ألف صورة منذ عام 2013 لإحدى عشر ألف معتقل تم قتلهم تحت التعذيب أو نتيجة التجويع، من بينهم صور لنساء وصور لأطفال.

 2 ـ حفار القبور وشهادته في محكمة كوبلنز وأمام الكونغرس الأمريكي. 

3 ـ الفيلم الوثائقي “سوريا الصرخة المكبوتة” حول جريمة اغتصاب النساء في معتقلات النظام، قدمته القناة الفرنسية الثانية، ولاقى انتشارًا واسعًا.

 4 ـ الآلية الدولية المحايدة والمستقلة للمساعدة في التحقيق والملاحقة القضائية لمرتكبي أشد الجرائم خطورة في سوريا بموجب القانون الدولي منذ عام 2016 في كانون الثاني أصدرت الأمم المتحدة قراراً يقضي بإحداث الآلية المستقلة التي تملك الاختصاص في جمع الأدلة المتعلقة بانتهاكات القانون الإنساني، وتركز على أخطر الجرائم: الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وقانون حقوق الإنسان، بغية حفظها وتوثيقها، من أجل تحقيق العدالة أمام المحاكم الدولية لاحقًا، نتيجة لعدم القدرة على تحريك الدعوى على هذه الجرائم أمام محكمة الجنايات الدولية حتى اليوم.

5 ـ المحاكم ذات الولاية العالمية: بموجب مبدأ الولاية العالمية يسمح للمدعي العام والمحاكم لمتابعة الجرائم الدولية. شهادات ناجيات/ين من التعذيب يقاضون النظام السوري. ومثال ذلك محكمة كوبلنز وشهادات مئات الضحايا حول القتل تحت التعذيب في السجون.

ومن الوثائق الهامة الأدلة المتوفرة لدى منظمة العفو الدولية ومنظمات المساءلة والعدالة ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة. 

كل هذه الوثائق أظهرت انتهاكات جسيمة ترتقي لجرائم ضد الإنسانية، منها:

  • التعذيب حتى الموت
  • الاختفاء القسري 
  • جرائم العنف والاعتداء الجنسي: في هذا السياق نشير إلى أنه بلغ عدد المعتقلات أكثر من 7000 معتقلة، ومازال أكثر 4500 منهن رهن الاعتقال، وفق تقدير شبكة حقوق الإنسان في سوريا هناك أكثر من 450 امرأة من المعتقلات في عداد المخفيات. تتعرض المعتقلات لصنوف مختلفة من التعذيب الممنهج، الضرب والدولاب والشبح، والإهانات، والابتزاز والتحرش الجنسي والاغتصاب.

 

إن قضية المساءلة والمحاسبة على الجرائم التي ارتكبت في سجون النظام تشكل هاجساً للنظام، وتمثل إحدى الأسباب الرئيسية للتهرب والمماطلة في حل ملف المعتقلات/ين، والنظام يعمل ما بوسعه على ربط ملف المعتقلات/ين، بالحل السياسي الذي يضمن استمراره ووجوده في السلطة، لأن استمرار النظام في السلطة، لن يتم إلا عبر توافق دولي، يشل من عمل المؤسسات الدولية، بذريعة الاستقرار الدولي. ويتم ترحيل قضايا المساءلة والمحاسبة إلى أجل آخر، حتى تتغير الظروف السياسية، على اعتبار أن الجرائم ضد الإنسانية لا تخضع للتقادم.

من ناحية أخرى إن الجرائم والانتهاكات بحق المعتقلات/ين تشكل الورقة الأهم، للضغط من أجل إقصاء رموز النظام، المسؤولين عن الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب السوري، وعلى رأسها الجرائم التي ارتكبت بحق المعتقلات/ين، في أقبية التعذيب لتوافر أدلتها، ومحاكمتهم على هذه الجرائم. 

 

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية