الآلية المستقلة للكشف عن مصير المفقودات والمفقودين في سوريا… الفعالية والمخاوف

 

ما زالت أعداد المختفيات\ين قسراً في سوريا، نقطة سوداء في تاريخ الإنسانية، يتحمل مسؤولية تبعاتها المجتمع الدولي وهيئاته ومنظماته، حيث تؤكد منظمات حقوقية سورية في مقدمتها “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” أن هناك 156,000 شخص مفقود، من بينهم أكثر من 112,000 مختفي/ة قسريًا معتقلين/ات لدى أطراف الصراع المختلفة، منهم 96,000 مختفي/ة قسرًا في سجون النظام. هذه الأعداد هي الحد الأدنى، حيث لا يمكن الوصول إلى الأعداد الحقيقية من المعتقلات/ين والمخفيات/ين قسرًا منذ الـ 2011، لأن الكثير من الأسر لا تخبر عن اختفاء أبنائها وبناتها ولا تثق أيضا بعملية التوثيق وخاصة من النساء والفتيات اللواتي قد يكن تعرضن إلى عنف جنسي أو عنف قائم على النوع الاجتماعي، بالتالي الأعداد أكبر من ذلك في كثير.

 رغم أن جميع القرارات الدولية وخاصة القرار 2254 الذي جاء بالحد الأدنى من التوافقات الدولية الذي رُبط بجميع القرارات الأخرى بدءًا من بيان جنيف واحد، والتي نصت على أن بند المعتقلات/ين والمختفيات/ين هو ملف إنساني ما فوق تفاوضي ويجب فصل المسار الإنساني عن المسار السياسي، وهذا ما رفضه النظام السوري. لكن في  حالة الاستعصاء السياسي حيث لم يكن هناك مفاوضات سياسية حقيقية في جنيف ولم نصل إلى أي نتيجة،  لذلك يستحق الأهالي وتحديدًا روابط الضحايا ومن عانوا من الاعتقال والناجيات/ين الخبر عن أحبائهن/م وعن أهاليهن/م سيما أن مصيرهن/م معلق بهذا الاختفاء القسري بما يتعلق بالميراث والممتلكات،  فهم يستحقون وضع أجندة المعتقلات/ين على طاولة المجتمع الدولي كأولوية، خاصة بعد سياقات التطبيع في الآونة الأخيرة التي تتعامل مع هذه القضية بشكل إعلامي سطحي حيث لا وجود لآليات تنفيذ حقيقية، مع عجز دولي لإيجاد حل جذري لهذه القضية. 

وتحت الضغط الكبير من هيئات ومؤسسات سورية معنية بحقوق الإنسان، والطلب المتكرر لأهالي المخفيات/ين قسراً أنشأت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 30 يونيو 2023. “مؤسسة مستقلة” من أجل “جلاء” مصير آلاف المفقودات/ين في سوريا على مدى 12 عامًا، مهمتها العمل على كشف المصير المجهول لآلاف المفقودات/ين والمخفيات/ين قسراً في سوريا وتقديم الدعم للضحايا ولعائلات المخفيات/ين. كما تتمتع الآلية المستقلة بالقدرة على الوصول إلى جميع المعلومات اللازمة للتحقيق في مصير المفقودات/ين، بما في ذلك السجلات الحكومية وتقارير منظمات حقوق الإنسان. 

يشير القرار الذي صاغته لوكسمبورغ وتبنته الجمعية العامة بأغلبية 83 صوتًا مقابل 11 ضده وامتناع 62 عن التصويت، أنه بعد 12 عامًا من النزاع والعنف في سوريا، لم يحرًز أي تقدم يذكر لتخفيف معاناة عائلات المفقودات/ين. حيث يوحي تحفظ أكثر من 60 دولة عن التصويت بتفكير مختلف عما سبق بالنسبة للكثير من الدول، بأن هذا النظام يمكن التعاطي معه بطريقة أو بأخرى، حتى لو كانت الدول الغربية عمومًا تقف في مواجهة كل عمليات التطبيع معه. وعدم تصويت الدول العربية مع القرار، ما عدا قطر والكويت، يؤكد هذا التوجه إذ أنها تعمل على حل للأزمة في سوريا عن طريق المبادرة العربية وتعتقد أنها بتصويتها ستفقد ثقة النظام وستفشل المبادرة العربية. 

وبالعودة إلى المؤسسة المستقلة التي أنشئت من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، يتساءل أهالي عشرات آلاف الضحايا حول قدرة هذه المؤسسة على تحقيق العدالة للضحايا وأهاليهن/م، خصوصاً مع عدم وضوح آلية عملها من دون تعاون النظام السوري والأطراف الأخرى، فقد عارضت الحكومة السورية بشدة إنشاء هذه الآلية، واتهمتها بـ “التدخل في الشؤون الداخلية السورية” و “التحيز ضد الحكومة السورية”، كما أنها لا تنص على محاسبة مرتكبي الانتهاكات في سوريا، وتعاني من نقص التمويل، وهذا يبرر المخاوف التي أبدتها بعض عائلات المعتقلات/ين والمغيبات/ين قسراً من إغفال الجانب الحقوقي لموضوع المحاسبة، وجبر الضرر، لأن الآلية تركز فقط على الجانب الإنساني من كشف المصير، وهو جانب إجرائي، لا يمت بصلة للقوائم التي يصدرها النظام والمدرج فيها أسماء المعتقلات/ين المتوفيات/ين في سجونه في النفوس المدنية بتقارير طبية بأنهم توفوا بجلطات قلبية، وهنا يأتي التساؤل ما هي آلية التحقيق المتعلقة بهذه الأسماء وأصحابها؟ وما هي آلية المحاسبة في حال كانوا متوفين تحت التعذيب، أو بسبب سوء المعاملة وقطع الدواء أو الغذاء عنهن/م؟ 

هذا تخوف إضافي من أن تتحول هذه الآلية كآلية مساعِدة للنظام، وليست ضاغطة عليه، وببساطة من الممكن أن يقوم النظام بإدراج قوائم كاملة بأسماء المختفيات/ين ليُعتبر أنه كشف عن مصيرهن/م، وهنا سيضيع حق الضحايا وذويهن/م، وسيفلت المجرمون من المحاسبة والعقاب، وسيكون هذا الأمر معرقلاً لعدالة انتقالية من حيث جبر الضرر والمحاسبة. 

ومن ناحية دولية؛ فإنه على مدى عدة سنوات لم يستطع المجتمع الدولي تقديم أي خطوة في الكشف عن مصير المخفيات/ين لدى تنظيم “داعش” على سبيل المثال، فعندما قامت قوات التحالف الدولي بحملتها في القضاء على الإرهاب في مناطق شمال شرقي سوريا بالتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية، لم نعرف أي معلومات عن أمنيي “داعش” والمختفيات/ين لديها، ولم تصدر هذه الجهات أي شيء بهذا الخصوص، بل على العكس، فإن الإدارة الذاتية تمنع إنشاء أي رابطة خاصة بعائلات الضحايا، ولا تمنح أي تراخيص لأي نشاط بهذا الخصوص، وهذا يعتبر معرقل للعملية. 

كل ما سبق لا ينفي احتمالية فعالية هذه الآلية، وقدرتها على المساهمة في تقديم خطوة نحو تحقيق العدالة للضحايا من الرجال والنساء، وللأهالي التي ما تزال بانتظار أي خبر عن أحبتهن/م المفقودات/ين إذا توفرت إرادة سياسية حقيقية.

كانت الحرب السورية كارثة إنسانية، وأثرت بشكل خاص على النساء. حيث تم استهداف النساء بشكل تمييزي من قبل جميع أطراف النزاع، بما في ذلك النظام السوري والفصائل المسلحة المعارضة. 

نجد في الحركة السياسية النسوية السورية؛ أنه من الممكن للآلية المستقلة للكشف عن مصير المفقودات/ين في سوريا إمكانية إحداث تأثير إيجابي على النساء في سوريا من خلال تقديم الدعم للنساء اللاتي فقدن أحبائهن أو تعرضن للعنف من خلال تقديم المشورة والدعم النفسي والمادي للنساء، والتحقيق في حالات الإخفاء القسري والتعذيب التي تعرضت لها النساء، من حيث جمع الأدلة التي يمكن استخدامها لمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم. وبما أن باستطاعتها إصدار توصيات للحكومة السورية لمنع حدوث المزيد من العنف ضد النساء، فيمكن لها أن توصي بإصلاحات قانونية، ومؤسسية لتحسين وضع المرأة في سوريا. إضافة إلى مراعاة العوامل المختلفة التي تؤثر على حيوات النساء، مثل العرق والطبقة الاجتماعية والوضع الاقتصادي والحالة الاجتماعية والصحية، فيمكنها التأكد من أن النساء من جميع الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية يحصلن على الدعم والعدالة التي يستحققنها.  

نحن في الحركة السياسية النسوية السورية؛ نقدر المساعي لتقديم المعلومات وتحقيق العدالة للضحايا ولمن فقدن/وا أحبائهن/م في سوريا على مر السنين، وهذا حق لهن/م، ونعتبر بأن هذه الخطوة هي خطوة مؤسِّسة في طريق العدالة الطويل لأنها بنيت على جهود روابط عائلات الضحايا، وبتلازم عمل جميع المسارات المحلية والوطنية والمدنية والحقوقية وحتى السياسية على الرغم من تأخرها أحد عشر عاماً.

وندعو جميع الأطراف إلى دعم الآلية المستقلة للكشف عن مصير المفقودات/ين في سوريا لتصل إلى نتائج ملموسة، وأن يعرف جميع الأهالي مصير أبنائهم وبناتهم، وهذا يتطلب أن يكون هناك إرادة دولية من جميع الأطراف العاملة في الملف السوري، وأن يكون لديها خطة واضحة من أجل تفعيل هذه الآلية كي لا تفرغ من مضمونها كما حصل مع الكثير من الملفات السياسية. ونؤكد أن على المجتمع الدولي توفير التمويل اللازم للآلية المستقلة للكشف عن مصير المفقودات/ين في سوريا، وأن على منظمات حقوق الإنسان دعم الآلية وتقديم المعلومات التي تحتاجها. وأن على الدول العربية والأمم المتحدة أن تضغط على النظام السوري ضمن الخطوات المتفق عليها للتعاون مع الآلية المستقلة للكشف عن مصير المفقودات/ين في سوريا وتقديم جميع المعلومات التي تطلبها. 

  

اللجنة السياسية في الحركة السياسية النسوية السورية