العملية السياسية في ضوء التحولات الإقليمية والدولية

 

أدخلت الحرب الروسية على أوكرانيا الملف السوري في مجاهل جديدة، خصيصاً مع الادعاء الروسي بأن جنيف لم تعد مكاناً محايداً، من بوابة التعقيدات الجديدة حول منح الوفد الروسي فيزا دخول إلى سويسرا، واستغلال النظام السوري ذلك، في عدم المشاركة في جولة جديدة من جولات اللجنة الدستورية، والمحاولات المستميتة لتغيير مكان اللجنة، هذا ما وضع القضية السورية في ثلاجة العلاقات الدولية.

وازداد المشهد تعقيداً إثر تطور الوضع الإيراني في خضم الاحتجاجات، على خلفية انتهاك حقوق النساء، التي تطورت لاحتجاجات شعبية على النظام الديكتاتوري في إيران. وقد ساهم تعنته في القمع بعد مقتل الشابة الكردية “جينا مهسا أميني”، في نقل الحراك بالمعنى السياسي من فعل تظاهري إلى ثورة حرية وكرامة، ما سينعكس على مفاعيل المفاوضات حول الاتفاق النووي، وعلاقته المتجانسة مع الملف السوري.

وترافق ذلك مع استعصاء في انتخاب رئاسي في العراق، وتشكيل حكومة عراقية جديدة، أدى إلى تدخل أمريكي سهل العملية السياسية في العراق، وإعادة سيطرة جماعة الإطار على الوضع السياسي، وإعادة هيمنة الأجنحة الموالية لإيران، وإبعاد المعارضة الصدرية والمتحالفين معها عن المشهد العراقي.

ومن جانب آخر توسعت بوابة التفاهمات بين الروسي والتركي، والتنسيق للانفتاح السياسي على نظام الأسد، في ظل استمرار اللقاءات الأمنية، التي يعقدها الجانبان في فترات زمنية منتظمة، والاستفادة من موات العملية السياسية، وحرص الإدارة التركية على توظيفها بالورقة الانتخابية داخلياً، بمواجهة الأحزاب المعارضة ذات التوجه للتنسيق من النظام السوري، للتخلص من عبء اللاجئات/ين، وإنجاز توافقات حول ما يسمى المنطقة الآمنة.

جاءت زيارة المبعوث الخاص بيدرسون إلى دمشق، من أجل فتح ثغرة نحو عودة اجتماعات اللجنة الدستورية. لكن جميع المؤشرات، لا تشي بتحقيق أي تقدم سوى الدوران في المكان على الصعيد الأممي.

وتستمر المبادرات العربية للخروج من حالة الاستعصاء، لتمثيل أولوياتها التي تبنى عليها السياسات.

فظهر تحرك عربي لإحياء المبادرة الأردنية، بمساندة إماراتية وربما عربية أيضاً، لإطلاقها في مؤتمر من المفترض عقده في العاصمة الأردنية عمان، تهدف لتحقيق الاستقرار في المنطقة. هذا الاستقرار الذي قد يتم البناء عليه. ولكن كل ذلك ربما يحكم عليه بالفشل، لافتقاده التوافق (الأمريكي- الروسي)، حول الحراك السياسي (العربي، الإقليمي، والدولي) من أجل تحريك الملف السوري. فهل تنجح القوى العربية بفصل القضية السورية عن الحرب الدائرة في أوكرانيا، والصراع الدولي في العالم؟ هذا يحتاج إلى مراقبة ومتابعة، مع الحذر من الذهاب بالملف السوري بعيداً عن بيان جنيف والقرار الأممي 2254، فذلك لن يساعد في تحقيق طموحات الشعب السوري في التغيير الوطني الديمقراطي.

توحي لقاءات بيدرسون الماراثونية، أنه مازال يأمل، ويعمل على مبدأ الـ “خطوة مقابل خطوة”، رغم رفض النظام والمعارضة معاً لهذه المبادرة. إلا أن عدداً من القوى الدولية، مازالت تحاول التقدم في هذا المشروع للمقايضة بين النظام السوري وداعميه، وبين التنازلات التي يمكن أن يقدمها الغرب. إذ على الرغم من تكرار الاتحاد الأوروبي على اللاءات الثلاث (لا لرفع العقوبات، لا لإعادة أعمار، ولا للتطبيع) حتى الانخراط التام للنظام في العملية السياسية، إلا أنه من الواضح استخدامهم سياسة المهادنة بلغة تنازل جديدة، تجاه سردية الأمريكي حول تعديل سلوك النظام. وجدير بالذكر ما قدمته الإدارة الأمريكية من تنازل للبنان والأردن، في موضوع نقل غاز المحتل الإسرائيلي من مصر إلى لبنان عبر الأردن وسوريا. لكن حتى هذه اللحظة لم يدخل هذا المشروع حيز التنفيذ، واستثنيت من عقوبات قيصر (شمال شرق سوريا، شمال غرب سوريا). ولكن حتى الآن لا وضوح فيما سيقدم الغرب الأوروبي والأمريكي في هذا البرنامج للنظام، وإن كان سيقدم له شيئاً، فهل يمكن إطلاق اسم “الغموض البناء” على “خطوة مقابل خطوة”، فيما إذا تم العمل عليها من الدول الراعية للعملية السياسية في سوريا. كل ما تم التقدم به فقط في ملف المساعدات الإنسانية، وهذا ما يمكن تسميته “خطوة مقابل خطوة”، حيث يريد الروسي خطوة في إعادة تعويم النظام، وإنهاء العقوبات الأوروبية والأمريكية عليه. بينما ما يريده الآخرون هو الانخراط الكامل في العملية السياسية، والتقدم في العملية الدستورية، والدخول في نقاش هيئة الحكم الانتقالي. لكن ذلك من الصعوبة الدائمة في ظل استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا، وهذا لا ينفي أن هناك العديد من الدول المحيطة بسوريا مستفيدة من عطالة العملية السياسية (تركيا، إسرائيل، والنظام ذاته)، ولكل دولة أزقتها الخاصة. فالتركي يريد حلاً لقضية اللاجئات/ين السوريات/ين، لكي يبقى أردوغان وحزبه في السلطة والنجاح في الانتخابات القادمة. في حين يرغب رئيس وزراء حكومة الاحتلال الإسرائيلي بالاستفادة من الضربات الجوية الإسرائيلية للقواعد الإيرانية، ولقوات النظام في الجنوب السوري في الانتخابات الإسرائيلية القادمة. أما النظام فتفيده هذه العطالة في استمراره بالسلطة. 

إن وضع السوريات والسوريين منذ تدويل الملف السوري، وتحويل الأرض السورية إلى مستنقع لتصفية الحسابات الدولية، وتحويل السوريات/ين (نظام، ومعارضة) إلى أدوات في أيدي اللاعبين الدوليين والإقليميين والعرب، أخرجهن/م من المعادلة كطرف فاعل في قضيتهن/م، ووضع القضية تحت رحمة هؤلاء اللاعبين، ويبدو أنه لا فكاك للقضية السورية عما يجري من صراع في العالم، حيث لا تزال الأراضي السورية مستنقعاً لتصفية الحسابات الدولية، رغم ادعاءات القوى أنها تحاول تحييدها. لكن الوقائع تقول؛ إن سوريا وأرضها، وما يجري فيها هي ساحة صراع دولي.

 فما يجري هذه الأيام من صراع عسكري فصائلي في الشمال الغربي على الهيمنة والسيطرة بقيادة (هيئة تحرير الشام، النصرة سابقاً)، وسيطرتها على عفرين، قد يكون تجسيداً للصراع العسكري لصالح جهات خارجية في عملية تصفية الحسابات، في إطار الهيمنة والسيطرة وتهيئة الشمال الغربي لسيناريوهات متعددة ومعقدة، كأن تكون المنطقة مثلاً تحت سيطرة هيئة تحرير الشام المصنفة على قوائم الإرهاب، فيسهل استخدامها في مقايضات تخدم مصالح المنتفعين منها. ولكن كالعادة يدفع المدنيات/ون ثمن هذه الصراعات المحلية والإقليمية والدولية. فإن حرب المصالح التي تتجلى عسكرياً تطحنهم بين رحاها، وهذا ما نراه الآن مرة أخرى في حرب الفصائل والنصرة، فنرى نزوحاً جديداً، وتخوفاً من اعتقالات جديدة، وقمع جديد للنساء. 

إن ما نحتاجه بالضرورة وكأولوية، تشكيل كتلة سياسية صلبة قادرة على الانتقال من التبعية إلى تحرير الذات السورية، عبر مفهوم “الكتلة الحرجة”، بما فيها الدور الجلي للحركة النسوية السورية التي تعمل لتحقيق المصالح السورية، في التغيير الوطني الديمقراطي الجذري، الذي سوف يكنس النظام والقوى التابعة، نحو تحقيق مصالح الشعب السوري في الحرية والديمقراطية، ودولة المواطنة المتساوية التامة. فهل تستطيع قوى المعارضة السورية كسر علاقات التبعية والارتهان، وتوسيع مشاركة القطب الديمقراطي والتقدم لحمل مسؤوليتها التاريخية، في نقل التسوية السياسية من أيدي التجاذبات والمصالح الدولية إلى حالة سورية خالصة.

إن التجارب المريرة للدول التي خضعت لصراعات مثل سوريا الآن، وفي دول محاذية لسوريا مثل “لبنان والعراق”، تؤكد أنه لا إمكانية للفكاك من لعبة المصالح الأممية في هذه البلدان. ولكن تؤكد بالمقابل على أولوية مصالحنا على مصالحهم، ولنا فيما يجري في العراق مثال يحتذى. لذلك تحتاج قوى المعارضة التي ستشكل “الكتلة الحرجة” إلى دعم وتبن شعبي سوري، للوصول إلى حالة انتزاع الملف والتسوية السياسية السورية، من أنياب المتدخلين واللاعبين في التسوية السياسية. 

 

اللجنة السياسية في الحركة السياسية النسوية السورية