خطوات التقارب مع النظام السوري… إلى أين؟

 

شهد الملف السوري – بشكل مباشر أو غير مباشر – تطورات جمّة خلال الفترة الماضية، والتي صنفها معظم متابعات/متابعي الشأن السوري كمحاولات للتقارب مع النظام السوري أو إعادة تأهيله، وبالأخص من قبل دول إقليمية. بينما بدأت ملامح هذه التطورات بالتجلي منذ سنوات بخطوات أو تصريحات خجولة هنا وهناك، إلا أنها بدأت بالتسارع خلال السنة الماضية وبشكل ملحوظ عقب الزلزال المدمّر الذي ضرب سوريا وتركيا في 6 شباط الماضي. وهذا يطرح بعض الأسئلة أو التساؤلات فيما يتعلق بمصير الملف السوري والعملية السياسية والانتقال السياسي.

بداية؛ من المفيد العودة إلى ما قبل الزلزال وقبل بدء التحركات المتسارعة من قبل بعض الدول الإقليمية باتجاه ما يبدو على أنه محاولات لإعادة فتح العلاقات مع النظام السوري. فمنذ بدء الحرب الأوكرانية في 24 شباط من العام الماضي، كان واضحاً أن الملف السوري لم يعد أولوية لدى المجتمع الدولي وبالتحديد لدى الغرب الذي وجد نفسه لأول مرة منذ عقود على أعتاب جبهة حرب، وبالرغم من عدم وصولها إليه بالمعنى العسكري، إلا أن تداعياتها وصلت إليه من خلال آلاف اللاجئات/ين الأوكرانيات/ين والتأثيرات الاقتصادية وبالأخص بملف الطاقة. إضافة إلى ذلك، كانت الحرب الأوكرانية عاملاً في تقليص العلاقات الغربية مع الجانب الروسي إلى أدنى الحدود.

كان لهذه العوامل تأثيراً مباشراً وغير مباشر على الملف السوري، حيث انخفض مستوى انخراط الغرب في الملف السوري إلى الحد الأدنى، الذي تمثّل بالتصريحات الدورية المعتادة والدعم الإنساني والبرامجي وبعض النشاط الدبلوماسي المحدود، ولكن شبه توقف كامل في الملف السياسي. في ذات الوقت، أخذت معظم دول المنطقة – تركيا وبعض الدول العربية – موقفاً يمكن توصيفه إلى حد ما بالوسطي من الحرب في أوكرانيا، أو على الأقل وربما للمرة الأولى غير مصطف كاملاً مع الغرب.

في النصف الثاني من العام الماضي، وبشكل متسارع منذ مطلع هذا العام، عاد الملف السوري إلى الساحة من خلال التحركات التركية، بداية مع روسيا ومن ثم بانضمام إيران – أي في إطار «مسار أستانا» – باتجاه إعادة فتح العلاقات مع دمشق، التي وصلت حتى اللحظة إلى لقاء على مستوى وزراء الدفاع، مع حديث حول لقاء رباعي لوزراء الخارجية ولاحقاً على مستوى الرؤساء. كان من المتوقع أن يسبق ذلك لقاء رباعي «تقني» على مستوى نواب وزراء الخارجية في موسكو في منتصف شهر آذار، الأمر الذي لم يحصل بسبب شروط مسبقة وضعها النظام السوري فيما يتعلق بالتواجد التركي في سوريا.

أما عربياً؛ فإن بعض الدول العربية لم تقطع علاقاتها مع دمشق كلياً على مدى السنوات الاثنتي عشرة الماضية وكانت ترفع مستوى التواصل بين الحين والآخر، ومنها من بدأ بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع النظام. وبدأت بعض الدول العربية بالدفع باتجاه إعادة النظام إلى الجامعة العربية، الأمر الذي لم يحصل بعد، بسبب رفض دول عربية أساسية وعلى رأسها السعودية وقطر.

عودة إلى ما بعد الزلزال، الذي على إثره وبحجة الكارثة الإنسانية الناتجة عنه في عدة مناطق تحت سيطرة النظام، قامت الدول العربية وحتى الاتحاد الأوروبي بإرسال شحنات من المساعدات الإنسانية إلى مناطق النظام. وبدأت بعد ذلك بعض التحركات العربية باتجاه النظام السوري، وعلى رأسها تشكيل وفد من الاتحاد البرلماني العربي، الذي توجه إلى دمشق في نهاية شباط الماضي، وأتت بعده زيارة لوزير خارجية مصر، في أول زيارة دبلوماسية منذ أكثر من عشر سنوات. وكانت هذه الزيارات بذريعة التضامن مع سوريا والشعب السوري إثر الزلزال، وتوصيفها بأنها من منطلق إنساني بحت.

من المهم أيضاً التنويه إلى بعض المعطيات الأخرى؛ ومنها الحديث حول مبادرات عربية لحل الأزمة السورية، وكذلك زيارة رأس النظام إلى مسقط، بالإضافة إلى بعض الملفات التي يمكن أن يكون لها تأثيراً مباشراً على الملف السوري، وعلى رأسها الاتفاق السعودي-الإيراني برعاية صينية، وأيضاً عودة العلاقات التركية-المصرية بعد انقطاع دام عشر سنوات.

على الجانب الآخر – إن صح التعبير – كان هناك بعض التصريحات من الدول الغربية والولايات المتحدة التي تؤكد أنها تقف ضد إعادة فتح العلاقات مع النظام السوري، أو بالأحرى أنها هي لن تعيد فتح العلاقات معه، وكرر الاتحاد الأوروبي إنه لن يغير سياساته تجاه سوريا وأكد «اللاءات» الثلاث حول سوريا: «لا لرفع العقوبات، لا لإعادة الإعمار، لا للتطبيع» دون أن تكون هناك عملية سياسية جارية لا يمكن العودة عنها. 

لكن ما افتقدت له التصريحات الغربية هي الاعتراض الواضح والصريح لخطوات التقارب من قبل الدول الأخرى وبالأخص العربية، الذي يمكن فهمه على أنه نوع من أنواع القبول الضمني لهذه التحركات. حيث إنه لم يعد خافياً أن هناك تململ أوروبي وأمريكي من الملف السوري، وقد يكون من الصعب عليهم أخذ خطوات انفتاح باتجاه دمشق، لكن في حال حصول تقارب من قبل دول إقليمية وبالأخص عربية، يمكن آنذاك نقل عبء الملف السوري إليها ليتمكن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من التركيز على مشاكلهم الداخلية المتزايدة والتعاطي مع الملفات التي تؤثر عليهم بشكل مباشر سواءً عسكرياً أو اقتصادياً. علاوة على ذلك، إعادة النظام السوري إلى المجتمع الدولي من خلال الدول العربية وتركيا، مثلاً، يزيل عن الغرب العبء «الأخلاقي» أمام شعوبه في حال قام هو بشكل مباشر بفتح العلاقات مع دمشق.

كل هذا يوحي بأن التحركات الأخيرة قد تكون بهدف إعادة تأهيل النظام السوري كما هو وفتح العلاقات معه وإعادته إلى المجتمع الدولي وكأن شيئاً لم يكن، ولكن يجب التذكير على الأقل بالنقاط التالية:

أولاً: الكارثة الإنسانية في سوريا لم تبدأ في 6 شباط عقب الزلزال، لكنها بدأت قبل أكثر من عقد، وجذورها تعود إلى أكثر من خمسين عاماً من القبضة الأمنية الخانقة وقمع الحريات والفساد على كافة المستويات وفي جميع مؤسسات الدولة، الأمر الذي ازداد وتفاقم منذ آذار 2011؛ ومن الجدير بالتذكير هنا أن مئات الآلاف من السوريات والسوريين قضوا في سوريا قبيل الزلزال، ومئات الآلاف ما زالوا ضمن عداد المفقودات والمفقودين ومصيرهن/م غير معروف نتيجة الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري من قبل النظام وأذرعه الأمنية الرسمية وغير الرسمية.

ثانياً: الملايين من السوريات والسوريين نزحوا من مناطق سيطرة النظام إلى مناطق أخرى في سوريا وملايين آخرون لجأوا إلى دول الجوار وما وراءها هرباً من النظام السوري وممارساته وبحثاً عن الأمن والأمان على كافة المستويات، ومنها الأمان الاقتصادي حيث يعيش اليوم 90% من الشعب السوري تحت خط الفقر بسبب استمرار تفشي الفساد، وما يزال هناك الملايين من النازحات والنازحين خارج مناطق سيطرة النظام لم ولن يعودوا إليها، كما أن العمليات العدائية ما زالت مستمرة؛ ما يعني أنه في حال عودة سيطرة النظام على كافة الأراضي السورية ليس فقط لن يعني عودة اللاجئات واللاجئين إلى سوريا، بل أنه يعني أن عدداً أكبر من أولئك المتبقين في سوريا سيحاولون الخروج من البلاد.

ثالثاً: هناك عشرات التقارير، ومنها من منظمات وجهات دولية، أثبتت تورط النظام وعدد كبير من رموزه وشخصياته في انتهاكات حقوق الإنسان، منها ما يرتقي لمستوى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

وعليه؛ فإننا في الحركة السياسية النسوية السورية نراقب عن كثب كافة التحركات والتطورات، وفي ذات الوقت نذكّر أن جذر المشكلة في سوريا كان وما يزال ممارسات النظام السوري بالدرجة الأولى، وأن الأزمة الإنسانية في سوريا وحجم تبعاتها، سواء قبل الزلزال أو بعده، هي أحد أعراض المشكلة وأن جذورها سياسية بامتياز، وحلولها المستدامة لا تكمن بالدعم الإنساني – على أهميته الآنية – ولكن بإيجاد حل يستهدف جذورها. ما يعني أن أي إعادة تأهيل لهذا النظام تعني استمرار المستنقع السوري والكوارث الإنسانية فيها وحولها بما في ذلك مشكلة الإرهاب، وإنها تصب في تحسين وضع النظام وليس الشعب السوري، وتؤدي إلى استمرار وتعميق ذات العوامل التي أدت إلى خروج الشعب السوري قبل اثنتي عشرة سنة. ما يعني أيضاً أن أي مبادرات لحل في سوريا لا يمكن أن تنجح دون مشاركة السوريات والسوريين ومن كافة الأطراف، وبمشاركة النساء السوريات بنسبة لا تقل عن 30٪ في كافة المراحل وعلى كافة المستويات.

كل هذا يعني أن إعادة تأهيل النظام ليس فقط لن يؤدي إلى حل للأزمة السورية، لكن سيعمقّها أكثر سواء على المستوى السوري أو حتى على المستوى الإقليمي والدولي. كما أننا نرى أن هذه التطورات أعادت الملف السوري إلى الواجهة وأنها فرصة لتحريك العملية السياسية السورية بهدف الوصول إلى حل سياسي شامل عبر التطبيق الكامل للقرار 2254، وهو المخرج الوحيد لسوريا والشعب السوري، وأيضاً السبيل الوحيد لتكون سوريا أكثر استقراراً وتأخذ دورها الحقيقي والفعال عربياً وإقليمياً ودولياً.

 

اللجنة السياسية في الحركة السياسية النسوية السورية