الحراك الشعبي في السويداء: مشهد جديد يزيد من الضغط على نظام الأسد 

 

يبدو أن اللقاء الأخير الذي ظهر فيه رأس النظام بشار الأسد على سكاي نيوز كان الشرارة التي أعلنت عن بداية مرحلة جديدة في ثورة السوريات والسوريين ضد نظام الأسد، بما يحمله من إفلاس وتنصُّل من المسؤوليات وعجز عن تقديم حلول ناجعة للأزمات المعيشية المتعاقبة داخليًا، بعنجهيته المعهودة رافضًا تقديم أي تنازلات أو حتى رؤية للانخراط في أي عملية سياسية، حارقًا كل السفن بما فيها العربية والتركية المنفتحة عليه مؤخراً. تركت تصريحات الأسد العقيمة صدى غاضبًا عند السوريات والسوريين في المناطق الواقعة تحت سيطرته، ليكللها قرار زيادة الرواتب بنسبة 100٪؜، مترافقاً بانهيار سريع لصرف العملة مقابل الدولار، وارتفاع غير مضبوط بالأسعار وانعدام القدرة الشرائية عند أكثر من 80٪؜ من السوريات والسوريين، وصدور قرار برفع الدعم عن بعض السلع والمواد الأساسية والوقود، ما اضطر العديد من المحلات التجارية إلى الإغلاق لتجنب الخسارة بسبب عدم استقرار الأسعار وسعر الصرف، وتسجل عزوف موظفات/ي الدولة في بعض القطاعات عن الذهاب إلى العمل وانقطاع المواصلات في بعض المناطق.

إذًا؛ تحرك الجمر من تحت الرماد، وعلت الأصوات الغاضبة لناشطات/ين على مواقع التواصل الاجتماعي السورية في الداخل من مدن عدة (مصياف -جبلة -ريف دمشق- حمص) متذمرةً من الوضع المعيشي الكارثي، منتقدة تغافل النظام عن طرح الحلول البناءة والفعالة وتفشي الفساد. وقد يعتبر انخراط بنات وأبناء الساحل في موجات الغضب الشعبي قد شكل تحولًا مهمًا، يعكس تفكك القاعدة الشعبية التي راهن النظام عليها واختطفها لسنوات لصالحه في حربه على معارضيه.

منذ العام 2011 انهارت مملكة الخوف لدى السوريات والسوريين، حتى لدى من لم يلتحق بالثورة الأولى، والدليل لم تفلح القبضة الأمنية ومنظومة الرعب في إسكات تلك الأصوات الغاضبة الناقمة على سياسات حكومات الأسد الاقتصادية المافيوية، التي ساهمت في إفقار السكان وسلبهم أبسط مقومات الحياة، وانتقاد خذلان الحلفاء (الروسي – الإيراني) وتوجيه انتقادات طالت رأس النظام ودوائره المقربة. ليلتقط الشارع السوري المحتقن الفرصة التاريخية في تغيير المسار الإجباري الذي وُضع فيه بعد انقضاء عقد ونيف على الصراع، وحالة الأمر الواقع التي ظن الأسد أنها استتبت له بعد مسارات التقارب الأخيرة إقليميًا وعربيًا، وانشغال العالم في الحرب الأوكرانية بالتالي تغير أجندة الأولويات الدولية. 

وسط تسارع وتيرة الغضب الشعبي؛ ظهرت منشورات لحركة 10 آب وحركة الشغل المدني وحركات احتجاجية شعبية فردية، ترافقت مع انتشار دعوات للعصيان المدني، ترفع مطالب لحل طارئ لأزمات السوريات والسوريين المعيشية، الأمر الذي تجاهلته الحكومة ورأس الحكم بمقابلته إياها وقرارته العبثية، فانتقل الحراك إلى مستوى آخر من الفاعلية، مما أشار إلى أن هناك حراك شبابي-مدني واعٍ لمتطلبات المرحلة وتدريج سقف المطالب وآليات العمل حسب حساسية وضع وظرف كل منطقة. فرأينا مبادرات ودعوات سلمية لا عنفية أعادت لذاكرتنا ناشطية البدايات، قصاصات ورقية توعوية، مطالب معيشية واجتماعية، تضامن بين المدن، مطالبات بضرورة التغيير السياسي، ومكافحة الفساد والمخدرات، دعوات لعصيان مدني، دعوة قوات الأمن والجيش بعدم الانخراط مجددًا في إراقة الدم السوري. انتشرت الكثير من اللافتات والوسوم في مدن مختلفة تحمل شعارات تطالب بالحل السياسي وتؤكد على سلمية الحراك ومشروعية المطالب، رافضةً جميع الاحتلالات والمشاريع التقسيمية، موقّعةً باسم شابات وشبان سوريا في دمشق وريفها وطرطوس واللاذقية والسويداء ودرعا وحمص وحلب وإدلب والجزيرة والحسكة، من كل القوميات والطوائف لتسقط ورقة التوت الهشة التي تستّر بها النظام كحامٍ للأقليات وصمام الأمان للتعايش بين الأطياف السورية المتنوعة.

الحراك في جنوب سوريا أخذ منحى آخر نظرًا لخصوصية وضع المحافظتين الجارتين السويداء ودرعا، واختلال قوة القبضة الأمنية فيهما مقارنة ببقية المحافظات، فكان للانفجار الشعبي الجديد ترجمة فورية على الأرض، عمت المظاهرات السلمية المحافظتين بمطالب معيشية ترتبط بشكل وثيق بالحل السياسي في سوريا حسب بانوراما اللافتات. قوبلت مظاهرات درعا وأريافها بإطلاق الرصاص الحي والقصف، مما أدى إلى اشتباكات بين قوات النظام والفصائل المحلية، مع استمرار الاحتجاجات الشعبية المؤازرة للحراك الشعبي في السويداء داعيةً إلى الحل السياسي بما يتوافق مع القرار الدولي 2254، والإفراج عن المعتقلات والمعتقلين، وإيقاف ضخ المخدرات، وإنهاء النفوذ الإيراني في المنطقة وغيرها من المطالب المتبناة من الحراكات الجديدة.

في السويداء؛ حيث نزلت آلاف المحتجات والمحتجين إلى الشوارع والساحات العامة للمطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية وإلغاء القرارات الأخيرة، تحولت الاحتجاجات بسرعة متواترة إلى مظاهرات بمطالب سياسية في مقدمتها القرار 2254، ورحيل نظام الأسد وحزب البعث عن السلطة، وإنهاء الاحتلالات المختلفة في سوريا، وإيقاف بيع واستنزاف ثروات سوريا، وإيقاف تصدير وتصنيع المخدرات، ومطالب أخرى عديدة. 

واللافت أيضًا في هذه الاحتجاجات تصريحات الشخصيات الدينية الداعمة للمطالب المحقة، ووضع المطالب في إطارها الوطني من قبل الشارع. فصدر بيان رسمي بتاريخ 19 آب 2023 باسم الشيخ الهجري عكس مطالب الشارع، وأيد فيه مشروعية الحراك الشعبي، رافضًا تقديم أية تنازلات، في تحول غير مسبوق من موقف شيوخ العقل واصطفافاتهم السياسية.

كما أن انضمام العشائر البدوية إلى الحراك الشعبي (الجماعات السكانية من البدو المسلمات/ين السنة المقيمات/ين في المحافظة) كان خطوة إيجابية هامة وداعمة بعد عهد الفتن التي عززها النظام بين المكونين. فقام ممثلون عن العشائر بزيارة مقر الشيخ الهجري، وأصدروا بياناً رسمياً بتاريخ 26 آب يتبنون فيه مطالب الحراك كاملة، معلنين مشاركتهم في الاحتجاجات، تأكيدًا على فشل محاولات النظام السابقة على شق الصف بين أهالي السويداء وجيرانهم البدو، وأن الحراك الشعبي الجديد وطني وليس مبني على أساس إثني ديني انفصالي، كما حاولت ماكينات الإعلام الرسمية وغير الرسمية المقربة من النظام توصيفه. فبالرغم من رفع بعض الشعارات التي تحدثت عن حق إدارة المجتمعات لشؤونها المدنية والخدمية بمعزل عن سلطة الأسد والبعث، خاصة أن المحافظة تعاني أصلًا من إهمال مقصود امتد لعقود طويلة، استخدم كسلاح لمعاقبة السكان في السنوات الأخيرة لمواقفهم الرافضة لنظام الأسد وعدم مشاركتهم في حربه على الشعب السوري بعيد ثورة عام 2011، إلا أن المتظاهرات والمتظاهرين أكدن/وا على رفضهن/م الحديث عن حل منفرد للمحافظة، موضحات/ين أن نقص مواردها المالية والاقتصادية وموقعها الجغرافي ووضع المنطقة الجيوسياسي لا يسمح لها بإنشاء إدارة ذاتية مستقلة، ومؤكدات/ين على مطلبهن/م بحل سياسي عام وشامل في سوريا يبدأ من تطبيق القرارات الدولية والانتقال السياسي المرفق بالعدالة الانتقالية، رافضين الإسهام في التشظي السوري وإعطاء فرصة للنظام وأبواقه باتهام الحراك الشعبي المشروع بـ الانفصالية. 

بدورهن/م تفاعلت/تفاعل السوريات والسوريين في المنافي (أوروبا- دول الجوار- الجولان السوري المحتل…) مع ما شبهوه بالموجة الثانية لثورتهنّ/م. عمت المظاهرات عدة مدن أوروبية كما الحال في المحافظات والمدن السورية الخارجة عن سيطرة النظام على اختلاف قوى الأمر الواقع المسيطرة عليها، واختلطت أعلام ورايات السوريات والسوريين لأول مرة في مناطق جغرافية مختلفة، فقد رُصِد علم الدروز في إدلب وحلب وريفيهما، وأعلام الثورة وأغانيها في السويداء ولافتات بأسماء معتقلات ومعتقلي الرأي المغيبات والمغيبين قسريًا في سجون الأسد، كما وحضر العلم الكردي بكل الساحات. 

حملت اللافتاتِ عبارات تضامن بين المدن ترفض المناطقية والطائفية، وتؤكد على وحدة المصير السوري، ورفض التقسيم، وعلى ضرورة الحل السياسي وفق القرارات الدولية، لإنقاذ سوريا بكل مكوناتها وهوياتها، بإجماع عفوي غير مسبوق.

الدور الأبرز والتقدم بخطىً ثابتة إلى الأمام في المشهد، كان في المشاركة الواسعة للنساء والفتيات الشابات، بتصدرهنَّ الفعال في تحريك الشارع منذ اليوم الأول، فترأسنَّ المظاهرات ورفعنَّ مطالب الشارع وفق رؤيتهنَّ ومنظورهنَّ. طالعات سوريات وأخريات كثيرات مستقلات و ناشطات مدنيات و سياسيات شابات يعملن بتنظيم وطاقة إبداعية في توجيه الرسائل والمطالب التي تعبر عن رغبات السوريات والسوريين بالعدالة والانتقال السياسي ومكافحة الفساد والجريمة وتجارة المخدرات والإفراج عن المخفيات والمخفيين قسريًا، خاطبنَّ الإعلام المحلي والعالمي بسابقة إيجابية في طريق تمركز النساء في مكانهنَّ الطبيعي في الصفوف الأولى في العمل السياسي والتعبير عن رأيهنَّ في قضايا المجتمع والمشاركة في معارك تقرير المصير، لا سيما بعد التهميش الممنهج لمشاركة النساء والشابات في العمل السياسي في الموجة الأولى من ثورة 2011 لاعتبارات وظروف استطاعت المشاركات في هذا الحراك القفز عليها بشجاعة وثقة. توجهنَّ برسائل للمجتمع الدولي بشكل مباشر تضمنت قائمة مطالب تحقق تطلعات الشعب السوري في دولة مدنية تعددية وفق منظورهنَّ، وتوجهنَّ للمجتمعات المحلية بخطاب غير منمط بعيد عن الوصاية المجتمعية بأدبيات ذكية وواضحة. ليسجل الحراك النسوي السوري خطوة جديدة في إثبات فعاليته وتواجده المنظم في ساحات العمل السياسي والمدني في الداخل السوري، وعلينا أن ننظر أكثر في آليات دعم هذا الحراك ضمن أدوات الحركة السياسية النسوية السورية المتاحة وفق منهجيتنا السياسية النسوية التقاطعية، ووضع إمكانياتنا جميعًا كنسويات ونسويين وتيارات ديموقراطية وقوى فاعلة في المجتمع المدني في المهجر، كل من موقعها/ه لنكون رافدات/ين وداعمات/ين لـ حِراكات الداخل المدنية السلمية، ونحاول الاستفادة من ليونة تلك الحراكات واستثمار طاقات الجيل الجديد خاصةً الشبابية النسوية.

منذ 17 آب الجاري إلى يومنا هذا سلكت شابات وشباب الحراك في جنوب سوريا طريق اللا عودة مع نظام الأسد وحكومته، أغلق لأول مرة مبنى حزب البعث بوجه الموظفات/ين وتعطلت بعض مؤسسات الدولة واستمر تقديم بعض الخدمات كالكهرباء والقمح للأفران. 

أخذ الحراك شكل حضاري مدني مميز، حيث أعلن العصيان المدني المتقطع لعدم تعطيل الحياة بشكل تام، الأمر الذي تم بتوافق بين التجار والمتظاهرات والمتظاهرين، اللواتي/الذين بدورهن/م حولنَّ/وا ساحة الكرامة لملتقى سياسي وثقافي وفني، منتدى للحوارات والفعاليات والأنشطة الثقافية ولمخاطبة الرأي العام وتمرير مطالبهن/م، مع التشديد على الحفاظ على الممتلكات الخاصة والعامة ومؤسسات الدولة ومنع انتشار الفوضى. وتظهر جهود جادة من ناشطات وناشطي الحراك لإدارة شؤون المحافظة من قبل المجتمعات المحلية، حتى تحقيق مطالب الشارع المنتفض. لا سيما أن النظام لم يدلي حتى الساعة بتصريحات رسمية توضح نواياه المتوقعة لمواجهة لتلك الانتفاضة الشعبية، مما يترك السيناريوهات مفتوحة وغير واضحة المعالم للمرحلة المقبلة، بينما الثابت الوحيد هو إرادة الناس الراغبات/ين في التغيير والسلام والحرية، اللاتي/الذين التزمنَّ/وا الساحات وثبتنَّ/وا سقف مطالبهن/م.

 إننا في الحركة السياسية النسوية السورية؛ إذ ندعم و بتضامن عميق حراك أهلنا في الداخل السوري في الجنوب وعلى اتساع الجغرافية السورية، ونتبنى مطالبهن/م المشروعة والمحقّة، ونحمل على عاتقنا مسؤولية إيصال تلك المطالب، والعمل على فتح قنوات تواصل وجلسات حوار – بدأنا فعلًا بها- مع المحتجات/ين السلميات/ين، ونقل توصياتهن/م للشريكات والشركاء السياسيات/ين والدول الفاعلة في الملف السوري للتوصل إلى حل سياسي ووضع خطة تنفيذ واضحة للقرارات والاتفاقيات الدولية بما يخص النزاع في سوريا بدءًا بالعدالة الانتقالية والانتقال السياسي المتمثل برحيل نظام الأسد وقوى سيطرة أمر الواقع المتصارعة الناتجة عن سنوات دامية من الصراع ضمن تراتبية مشروطة للقرار الدولي 2254 حسب توافق السوريات والسوريين أنفسهن/م وليس على حسابهن/م، ونترقب بقلق صمت النظام المتربص بانتفاضة الجنوب السوري التي سُمعَت أصداؤها في عموم الجغرافية السورية، مكررًا سيناريوهات السنوات الماضية بغدر المحافظة بأيادي داعش والميليشيات الإيرانية المحيطة بها. 

 

اللجنة السياسية في الحركة السياسية النسوية السورية