أصوات نسوية، مقابلة مع كنانة عيسى


أصوات نسوية، قراءة في الحراك النسوي السوري

مقابلة مع الكاتبة والفنانة والباحثة المجتمعية كنانة عيسى

إعداد: رجا سليم 

كنانة عيسى، تعمل في مجال كتابة السيناريو والمقال، باحثة مجتمعية ومدافعة عن أهمية الوعي بأمور الصحة النفسية. حاصلة على إجازة في الأدب الإنكليزي  من جامعة دمشق ودبلوم العلاقات العامة من الجامعة الأوروبية، وزميلة فخرية ببرنامج الكتابة الدولي بجامعة أيوا بالولايات المتحدة. عاشت في دمشق لحين خروجها إلى بيروت ووصولها لكندا مروراً بالولايات المتحدة. أسست عدداً من المشاريع الفنية والمجتمعية والمدنية، كما عملت في مجال الإنتاج الفني للأعمال السمعية البصرية ولها تجارب فنية. بالإمكان القول إن حياتها مقسومة لنوعين من العمل؛ المجتمعي والفني.


أهلاً بكِ كنانة،


1- كنتِ من أوائل المنخرطات في العمل الثوري في سوريا منذ الـ 2011، واختبرتِ تبعات هذا الخيار- سنتحدث عن هذه الجزئية لاحقاً- عودي بنا للبدايات كيف بدأت ثورتك، الشخصية أولاً، ومن ثم مشاركتك في ثورة 2011. 

لا أعلم كيف بدأت ثورتي الشخصية، لكنني أشعر أحياناً أنها بالأصل ما دفعني للخروج من الرحم. لا أذكر لحظة لم أكن أبحث فيها عن التغيير. في مراهقتي كنت أخاطبه في كتابات أخبئها لنفسي، وبالبحث في الكتب والموسيقى عما يُعطيني مفاتيح امتلاك زمام قدري. عند دخولي للجامعة تعرفت على  أخريات وآخرين يبحثون عن تغيير في واقعنا المهزوم والمنكفيء على ذاته. ساعدني ذلك على المشاركة بتأسيس بعض نويات للعمل المدني والتطوعي في سوريا والمشاركة بكثير من المبادرات المدنية والثقافية والفنية على الرغم من القيود. بالإمكان القول إن ثورتي الشخصية لم تكن كافية، كنت، كما كانت مجموعة من الشباب السوري الفاعل، بحاجة لثورة  تساعدنا على العطاء والتقدم  في مجتمعاتنا وبلادنا كجماعة لا كأفراد فقط. 

عندما بدأ الشارع بالغليان في سوريا استمرينا بممارسة دورنا المدني على مستوى الشارع لا على مستوى النخب السياسية والاجتماعية التي كانت تعمل على حماية قوالبها الجاهزة. تمكنت الثورة في بداياتها من تأمين مساحة غير مسبوقة للعمل المدني. كان الشباب السوري من كل الفئات المادية والاجتماعية والسياسية متعطشاً للعمل من أجل غدٍ لم يكن من الممكن التفكير به من قبل. لكن المناخ السياسي الدولي والمزاج السياسي والمجتمعي المحلي لم يكونوا جاهزين لاستقبال هذه الرؤى الغضة وإعطائها المساحة الضرورية لاستكشاف صوتها وحضورها بشكل كامل. لم يطل الوقت حتى طغى صوت المعركة على كل صوت، لكننا كنا وما زلنا ننادي بتمكين سوريا وفسح المجال لها كي تكون دولة مدنية مُستقلة قادرة على الاستمرار بالمساهمة الحضارية باعتناقها لتنوع أصوات أبناءها واختلافاتها وحتى تناقضاتها.  

2- برأيك، لماذا غابت أصوات الفئة الشابة التي كانت المحرك الأساسي للثورة عن المشهد السياسي ؟ هل هن\ّم قلّة عددية؟ أم مختلفات ومختلفون بالرأي؟ أم نفذت طاقتهنّ\م؟ 

لا أجد أن الأمر مرتبط بالقلة العددية فالمتحكمين بزمام الأمور هم قلة عددية أصغر. لكن مازال امتلاك مفاتيح النفوذ الاجتماعي والاقتصادي والدولي أساساً بالصعود للمشهد السياسي، بالتالي كثير من شابات/شباب الثورة الذين يؤمنون بضرورة تغيير كل الطريقة التي يتم بها تصميم المشهد السياسي الداخلي السوري قد لا يكونوا قادرين أو راغبين  باستخدام الوسائل التي توصلهم للحضور الذي يستحقونه. سأضيف أنني بصراحة أشعر أن المجتمع يبحث عما هو براق. في أوج دفق الأدرينالين الثوري كانوا هؤلاء هم الوجوه البراقة، اليوم البريق هو في مكان آخر. 

أما بالنسبة لمسألة الطاقة، الطاقة الثورية لا تنفذ، لكنها طاقة معنوية والوسط المحيط إما يغذي هذه الطاقة أو يخمدها. عندما يشعر المرء بأن المزاج السياسي والمجتمعي راغب بتجيير هذه الطاقة لمصلحته لا لمصلحة مبدأ الثورة سيحتاج للابتعاد عن كل ما يمتص طاقته والتواصل مع ذاته ومع دوافعه العميقة ليتمكن من الاستمرار. علينا التذكر بأن هؤلاء هم بشر أيضاً، بعد العوائق التي وضعت في طريقهن\م والأثمان العالية التي دفعوها مقابل دفاعهم عن مبدأ، سيحتاجون لوقت لإعادة بناء أنفسهن\م وصياغة مقولاتهن\م، ناهيك عن متطلبات الحياة باهظة التكاليف معنوياً ومادياً في الغرب. ربما يفيد التشبيه بعملية تخمير النبيذ هنا، بعد عصر العنب علينا أن نخبئه في زجاجة قاتمة اللون بعيداً عن الضوء قبل أن يصير نبيذاً. ونحن بكل تأكيد عُصِرنا.  

 3- في مقال لكِ على منصة “حِنّا” بعنوان ” البحث الذاتي عن أدوات النجاة”، تحدثتِ عن تجربة اعتقالك في سوريا والصدمة (التروما) التي حملتها معكِ سنوات عقب هذه التجربة وغيرها من تجارب فقدان الأصدقاء أو تغييبهن\م، ورحلة الشتات، وخيبات الأمل. إن لم يكن لديك مانع، حدثينا عن مفهوم الصدمة وأثرها في السياق السوري.

لأصف الصدمة سأستعير من مبادئ كتابة السيناريو. في كل فلم أو مسلسل هنالك بطل\ة يسعى لهدف ما، يحدث أمرٌ يُغيّر مساره\ا ووجهته\ا وهدفه\ا حتى أحياناً، الصراع مع هذا الحدث وتداعياته هو ما يدفع حبكة السيناريو. الصدمة هي كذلك الحدث الذي يتغير مسار الحياة بعده، قد تُغير الصدمة أهدافنا وطموحاتنا وأحلامنا وتحوِّلُنَا أحياناً لأشخاص كنا نسعى طوال حياتنا لألا نكونهم. لأضع الأمر في سياق سياسي سأحكي حكايةَ تبدأ بعد 2011: ثلاثة أشخاص آمنوا بالحراك المدني وبسوريا مدنية عادلة تتسع للجميع، أحدهم دخل السجن وتعرض للتعذيب وخرج ليصطدم بواقع أن هنالك من استغل غيابه عاطفياً وسياسياً ومادياً فحمل السلاح وصار يُعذب من تقع يديه عليه ممن يشتبه به كعميل للنظام. الثاني يعيش خارج سوريا واصطدم بالواقع الدولي وقذارته فتحول لمحترف بالسمسرة السياسية، الثالث شهد الدمار والقصف والتعذيب في سوريا وصار أباً غاضباً معنفاً بعد ما رآه.  

بالطبع هنالك من دفعتهم الصدمة ليصبحوا مدافعين/ات عن حقوق الإنسان، ومنهم من دفعتهم لتبني نمط حياة صحي وإيجابي ومنهم من ثبتتهم على مبادئهم كما لم يثبتهم أمر. لكن قصصي  هي نموذج عن الآثار القبيحة للصدمة السياسية  وقدرتها على خلق وحوش وحيتان من أشخاص هم بالأصل ضحايا أو حتى مشاريع أبطال. وَعيُنَا بالصدمة وآثارها وأساليب التعامل معها يحمينا ويحمي من نحب، كما يعطي فسحة ووسيلة لبعض من حرفتهم الصدمة عن مسارهم للتعامل مع أشباحهم بطريقة تخفف من تأثيرها، ولا تخلق في الأرض أجيالاً جديدة من الشياطين التي كانوا يحاربونها.  

تُغيرنا الصدمات وتحوّلنا لأشخاص آخرين، وتنتقل الصدمات من جيل لآخر. هذا ليس مفهوماً جديداً. لكن البحث العلمي والمجتمعي تمكن من وضعها ضمن أطر جديدة تمكننا من فهمها وتجاوزها وإن على المدى الطويل. كما أنها تساعدنا للوصول لجذور المشكلة والتعامل معها بشكل أفضل. عدى أنها تساعدنا على فهم الطريقة التي تستخدم بها السلطات المسيطرة مجتمعياً وسياسياً مفهوم الصدمة والخوف لحرفنا عن مسارنا. في كتاب حيونة الإنسان لممدوح عدوان وغيرها من المرجعيات في فهم القمع كبعض مؤلفات سارتر مثلاً كثير من التحليلات عن هذه الأمور، لكن الوسائل التي يؤمنها لنا علم النفس والأعصاب المعاصرين تساعدنا على تفكيك الأمر على مستوى شخصي مجتمعي تغني حياتنا الداخلية وتزيد من صلابتنا النفسية لنتمكن من عكس آثار الطغيان علينا بالدرجة الأولى، وهذا بحد ذاته انتصار. 

 4- في المقال ذاته تطرقتِ لشكل بحث مختلف عن النمط التقليدي في الأبحاث التي ت/ينجزها أكاديميات/ون، قائم على “المنهجية التي ت/يقودها الناجيات/ون” للخلوص إلى الأدوات والحلول المناسبة للتعامل مع التروما. هل يمكن لعملية البحث نفسها أن تكون إحدى سبل التعافي؟ حدثينا أكثر عن هذه المنهجية وسبل وأدوات تطبيقها.

أجد بأن عملية البحث لا مهرب منها، خاصة إن كنا نتحدث عن مفهوم التعافي الجمعي. وهنا من الضروري القول بأن التعافي كلمة غشاشة، فهي تفترض بأننا سنشفى من كل جروحنا وهذا غير حقيقي. التعافي هو قدرتنا على التوازن واتخاذ قرارات إيجابية لنا ولمن حولنا والتخفيف من آثار الصدمة كي لا تتمكن من حرفنا عن مسارنا بمجرد تذكرنا لها أو حديثنا عنها. البحث هو أخذ دور الفاعل في حل المشكلة عوضاً عن الاستسلام لدور المنفعل. بكوني أتحدث على منصة يتابعها عدد من الفاعلات/ين اجتماعياً ومدنياً وسياسياً ربما أخصهم بالكلام وأقول أن هؤلاء لا تكفيهم الإجابات الشخصية. كيف من الممكن لشخصيات مستقلة ألا تكون جزءاً من الحل الذي تبحث عنه؟ وكيف من الممكن لهم الاكتفاء بوصفات جاهزة لا تضع بعين الاعتبار خصوصية شخصياتهم وسياقها التاريخي؟  عدى أن فهم المسائل النفسية بالنسبة للفاعلات/ين يتعدى إطار تعافيهم الشخصي، فهم يتعاملون مع مجتمع ويؤثرون به، وهو مجتمع كله مصدوم ويعاني من آثار نفسية وعصبية مما شهده. بحثهم هذا سيمس كل المجتمعات والأشخاص الذين يتعاملون معهم، وسيغير الطريقة التي يتعاملون بها مع أنفسهم أيضاً. تعافيهم الشخصي وثقافتهم بمواضيع الصحة النفسية هي أمور  محورية في رحلة التعافي الجمعي. 

بالعودة لمنهجية البحث التي تحدثت عنها، هي منهجية تقول بأن الاختصاصي/ة ليس/ت صاحب/ة التجربة، وقد يفترض أدوات وحلولاً قد لا تؤدي دوماً بالمتعالج/ة للنتيجة المرجوة. قام بعض الناجون/الناجيات من نظام الصحة النفسي- والناجي/ة هنا هو الشخص الذي مر بتجربة علاج نفسي ونجى منها على الرغم من استخدام المعالج لمقاربة لم تلب احتياجات المتعالج- بالبحث في وسائل العلاج النفسي واقتراح حلول مختلفة عما قد يقترحه الاختصاصي/ة، وأدى ذلك لتطوير كثير من منهجيات العلاج. بالإضافة لما تقدمه هذه المدرسة من أمل للمصابين/ات بالاضطرابات وتغييرات في عملية العلاج النفسي، أجد في قيام الناجين/الناجيات ببحوثاتهم ونشر نتائجها انتصاراً سياسياً واجتماعياً لهم. فالمعركة مع الاضطراب النفسي ترافقها مشاكل مع موضوع الوصمة الاجتماعية والعزل الاجتماعي والانتقاص من قيمة آراء وأفكار وأعمال المصابين/ات بالاضطراب الذين غالباً ما يميل المجتمع لتحجيم أدوارهم. كما هو الحال في موضوع حقوق الفئات المضطهدة، الخروج من الهامش وامتلاك صوتك هو المعركة الحقيقية، والبحث يعطي وسائل علمية ومنهجية لامتلاك هذا الصوت والدفاع عنه.

5- برأيك كيف يساهم المجتمع في تعزيز الصدمة خاصة لدى الناجيات\ين من الاعتقال؟ 

للمعتقلين مكانة اعتبارية هامة في المجتمع الثوري، لكن مشكلة المجتمعات الإنسانية بغريزتها أنها تبحث عن ضحايا أو أبطال. لا تقوم الأنظمة باعتقال الفاعلين/ات عبثاً، هي تعلم أن الناجي/ة من التجربة سيحمل فوق عبء تعامله مع ذاكرة اعتقاله وتبعاتها الجسدية والعصبية عبء التعامل مع مجتمع مُتَطِّلب على كافة المستويات سيحوله إما لضحية أو لبطل/ة، فيطالبه بما يتجاوز قدرته الإنسانية أو ينتقص منها. وعلينا بالطبع ضرب الأعباء الاجتماعية بعدة أضعاف عندما يكون جنس المعتقل أنثى. أرى أن إعادة النظر بعلاقات القوى الاجتماعية ضروري كي يتمكن المجتمع من تحرير نفسه. فكما أن النظام الاجتماعي انعكاس للنظام السياسي، فالعكس صحيح أيضاً. عندما يعجز النظام الاجتماعي عن رؤية مشاكله وتصحيحها لن يتمكن من إنتاج نظم بديلة أقل هرمية وأكثر تعددية.

علي الاعتراف بأن مكانة المعتقلين الهامة في المجتمع الثوري تفسح المجال للناجيين بالاضطلاع بأدوار جديدة في رحلة التحرر من خلال تسليط الضوء على ممارسات مجتمعية إقصائية ربما لولا حقيقة أن للمعتقلين هذه المكانة لقام المجتمع بعزلهم وتهميشهم بشكل كامل. مشاكل كالفوقية النخبوية والاستخفاف بأهمية التدريب والتثقيف بطرق التعامل مع المصابين بالصدمات والتجيير السياسي للأشخاص مع الإهمال للبعد الإنساني والمجتمعي لنضالهم وعزل المجتمع للمختلفين عن المجموع وإطلاق النعوت والأحكام والتصنيف الطبقي والاجتماعي والابتزاز المادي والعاطفي عوضاً عن محاولة احتواء المُصابين وإعادة تفعيل أدوارهم ضمن مجتمعاتهم، كلها أمور علينا البدء بتغييرها على مستوى بنيوي واستراتيجي.

مقارنة بالاهتمام السياسي المنصب على قضية المعتقلين لم أر بأنه هنالك مجهود مماثل على المستوى الاجتماعي لفهم مشاكل الناجيات والناجيين من الاعتقال والتعامل معها. الأمر لا يقتصر على التعاطف الشخصي، هنالك علم مرتبط بالأمر والحصول على الأدوات الصحيحة يأتي من البحث والتدريب والدراسة لا من الارتجال العاطفي الذي سيستنزف كافة الأطراف. بَذْلُنا لمجهود جدي لاحترام وفهم نضال الناجيات/ين اليومي بمنظار علم النفس الحديث والفتوحات العلمية في مجال علم الأعصاب سيعود علينا بمجتمع أقوى وأشد قدرة على التعامل مع وحوشه .أن نقرأ قصص اعتقال أشخاص هو أمر مختلف من أن نقرأ عن طريقة دعمهم والتعامل معهم خاصة عند الحديث عنهم وعن تجاربهم.  أجد أنه من المنطقي كبداية أن يبدأ المتحدثون بقضايا المعتقلين أو موثقي قصصهم والمتعاملين بشكل مباشر معهم بالتفكير بالبحث والتدريب الحساس للصدمات بحيث يكون العامل/ة في المجال مهيئاً لأي موقف قد يمر به، وبالمقابل يتعامل بشكل لبق وحساس وملائم مع الناجيين. وكما جرت العادة، أنا جاهزة لتسهيل أي تواصل ضمن إمكاناتي.

6- شبهتِ من خرج في الثورة السورية بطفل عاش سنوات قمع وحجز للحرية في بيت العائلة وفجأة وجد نفسه خارج جدران هذا البيت وعليه اختبار الحياة والعيش وفقاً لشروطها، بلا شك سيتعثر هذا الطفل ويخطئ، وعليه فإن ما آلت إليه الثورة السورية طبيعي جداً بعد عقود من القمع الذي عاشه الشعب. برأيك كيف غير القمع والتضييق من مسار الثورة السورية؟ 

بالفعل أجد بأنه من الطبيعي الوصول إلى ما آلت إليه الثورة السورية. لكنني لا أوافق على اعتبار كثيرين لذلك أمراً طبيعياً والتسليم به. إن عدنا إلى تشبيه الطفل، كثيراً ما ينتهي أمر المتمردين على أهل قساة بإعادة تكرار نفس النموذج وتحولهم لنسخ جديدة من أهلهم، لكن أحياناً ينجح التمرد وينتج نماذج علاقاتية وعائلية مبنية على أسس جديدة. هنا تعود للواجهة أهمية دور الناقدات/النقاد والمثقفات/ين والباحثات/ين المجتمعيات/ين، والأهم، الوعي النفسي. هنالك على سبيل المثال ما يُسمى بالعجز المكتسب، أتت التسمية بعد تجربة قام بها عالم النفس الأمريكي مارتن سيليغمان في عام 1967 على الكلاب أثبتت بأنه عندما يفشل الكائن الحي بتجنب أو إيقاف محفزات مؤلمة ومتكررة يتعلم أنه لا حول له ولا قوة أثناء المواقف التي ستأتي بعد ذلك، هذا يعني تقبل الكائن فقدانه السيطرة، وبالتالي يتخلى عن المحاولة. الإرادة والوعي النفسي هما ما يساعد المرء للتغلب على هذا العجز المكتسب. العالم نفسه قام مع زميل له اسمه كريستوفر بيترسن بتأسيس مدرسة علم النفس الإيجابي. تعد هذه المدرسة تحدياً لعلم النفس التقليدي الذي يركز على ما هو ضعيف أو في حالة خلل للحد من تأثيره السلبي، بالمقابل يبحث علم النفس الإيجابي في مكامن القوة داخل النفس البشرية والتي تمكن الإنسان من النهوض واكتساب المهارة والحكمة والجرأة وحس العدالة المطلوبين لعكس المفعول السلبي للصدمات النفسية. على المستوى الشخصي أجد أن خليطاً من هاتين المقاربتين هو أمر فعال للغاية للتعامل مع آثار العنف والقمع والتضييق. وأضيف أن هذا العمل قد يتطلب أجيالاً لا جيلاً واحداً باعتبار أن الصدمات تنتقل من جيل لآخر. من الطبيعي الوقوع بالأخطاء، لكن الأهم هو القدرة على التعلم منها وتجاوزها، وهذا التعلم يأخذ وقتاً (لمن لديه الرغبة بالتعلم)، كما أن خلق مناخات إيجابية قادرة على مساعدتنا على فهم مشاكلنا وتفكيكها وتجاوزها يأخذ وقتاً أيضاً، خاصة بظل الإنكار المجتمعي العام.  

7- كنتِ ضيفة في حلقة بودكاست مؤخراً، وفي مداخلة لأحد الشباب قال إن أولويات السوريات والسوريين في الداخل اليوم ليست التغيير المجتمعي والسياسي. هل تعتقدين أن العمل من أجل التغيير مرتبط حتماً بواقع معيشي وأمني مستقر؟ 

أظن أن العمل من أجل التغيير هو للوصول لواقع معيشي وأمني مستقر. أمن وأمان الإنسان وحياته الكريمة الحرة هم الهدف الأسمى لأي حراك، وانعدامها هو مسبب للعمل من أجل التغيير. عند انعدام الاستقرار وتدهور الأوضاع الصحية والاجتماعية قد تتغير الأولويات الجماعية، لكن يزداد الخلل في ميزان تكافؤ الفرص والظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي مما يعني ازدياد الحاجة للعمل بطرق ثورية ومبتكرة للتخفيف من وطأة الظلم. العمل من أجل التغيير هو مبدأ يعيش المرء حياته وفقه لا تكتيك أو استراتيجية تتغير بتغير الأولويات. أشعر هنا أنه من الضروري توضيح السياقات المختلفة لكلمة سياسة، فكما أن السياسة باللغة العربية تعني تدبير شؤون الدولة، هي أيضاً تعني تدبير الأمور وتوليها على المستوى الشخصي. المفهوم الغربي مشابه للعربي لحد بعيد فالسياسة قد تعني الآليات التي تؤثر على إدارة الدولة، وقد تعني أيضاً الآليات التي تؤثر على آلية اتخاذ القرار بين مجموعة من الناس. 

عندما تزيد الفوضى ويصبح القانون مسخراً ضد الناس لا لأجلهم، عادةً ما يفضل الناس تولي أمورهم بيديهم وتصير القوانين والسياسات اليومية مجتمعية أكثر منها على مستوى الدولة. لكل مرء قدرة وسلطة وحضور سياسي ومجتمعي مهما صغر، التفكير بعلاقات القوى والسلطة والتثقف بها يُساعد المرء على صياغة مجموعة مبادئ تسمح له باتخاذ قرارات واعية. نحن غالباً ما نفسح القدرة للوصول إلى الموارد (مهما صغرت) لناس دون آخرين من غير إدراك لمدى سياسية هذا القرار. التفكير بمبادئنا السياسية يحدد طريقة تعاملنا مع كثير من التفاصيل، ومنها التعامل مع  الرجال والنساء والأطفال والمقعدين والفقراء والمهمشين وأصحاب الامتيازات، بالإضافة لما نقوم به لحماية حقوقنا وحضورنا والوصول إلى الموارد التي نحتاجها للبقاء والاستمرار. أرى أن فهم الفرد لنفسه ولعلاقته السياسية بالجماعة أساس التغيير. 

8- بالمقابل من يعيش خارج سوريا يشعر أن المقيم\ة في سوريا هي\و الأجدر بتقدير الأولويات. ما تعليقك؟ هل من فئة مسؤولة عن العمل لمستقبل سوريا، من هي؟ 

أظن أن إحدى مشاكلنا هي الاعتقاد بأن هنالك من هو/هي “مسؤول/ة” عن العمل لمستقبل سوريا، وننسى أن سوريا هي نحن. أشعر بأن هذه العقلية تدفعنا للاتكال على طرف آخر غير واضح سيخيب آمالنا دوماً. عندما نتوقف عن الاتكال على أطراف مجهولة نبدأ بالاعتماد على الذات، ويصبح كل فرد مسؤولاً عن القيام بأي فعل مهما صغر بشكل يومي لإحداث التغيير.  لحاقنا الأعمى بمن نظن أنهم قادرون على النهوض بمستقبل سوريا لا يؤدي إلا لخلق مزيد من الديكتاتوريات. تشجيعنا للآخرين على اللحاق الأعمى بنا لن يؤدي إلا لتحولنا نحن إلى ديكتاتورات. 

بالطبع المسؤولية الملقاة على عاتق من يُسمون بأصحاب الامتيازات أعلى من تلك الملقاة على عاتق الضحايا. من يمتلك سلطة مادية أو سياسية أو علمية أو اجتماعية أو فكرية عليه مسؤولية أعلى من غيره. لكن واقع الحال يقول بأن ذلك غير كاف، وبأن غالب من يصلون إلى السلطة يتشبثون بها وتصير هي هدفهم الرئيسي لا مستقبل الحريات في سوريا. إن لم نتحمل مسؤولياتنا لن نتمكن من فهم دورنا بتحميلهم/ن مسؤولياتهم/ن بالمقابل. هذا هو أساس حركة تحرر المضطهدات/ين: أن ندرك بأننا أيضاً لدينا صوت وكتلة تأثير حتى وإن كانت صغيرة الحجم بالبداية. هي أشبه بكتلة طين صغيرة موضوعة على عجلة صناعة الفخار، بإمكانها أن تتحول لفنجان أو مزهرية عالية القيمة يوماً ما. لكن إن لم نُدر العجلة ونبدأ بغمس أيدينا فيها ستظل مجرد قطعة طين صغيرة مرمية على العجلة. 

  

9- بالحديث عن الأولويات، هل تتفقين مع من يعتبر أن العمل النسوي لا يندرج على سلّم الأولويات في ظل الوضع السوري الراهن؟ ما هي رؤيتك للنسوية والعمل النسوي؟
النسوية تعني أموراً كثيرة لأشخاص مختلفين. حسب رؤيتي لها هي مفهوم اجتماعي سياسي يسعى لتحديث منظومة القوى والسلطة القائمة لفسح مجال للأصوات الأقل حضوراً ومنها صوت النساء كي يتم الاعتراف بإنسانية الجميع ، ولكنه لا يستثني الرجال من مقاربته. النسوية لا تدعو لعالم تحكمه النساء بل تسعى للوصول إلى عالم يعترف فيه بالمرأة كشريك فاعل وبرؤيتها التي تختلف عن التيار الذكوري السائد. كثيراً ما تكون مقاربات النساء أكثر تعاطفاً مع الرجال من تعاطف الرجال مع بعضهم. أما النسوية التقاطعية فهي طريقة لفهم تقاطع أشكال التمييز وتخفيف آثارها. إن كنت امرأة حاصلة على نفوذ اجتماعي وسياسي قد تكونين أنت صاحب الامتياز بالعلاقة مع رجل محروم من أي شكل من أشكال الامتيازات. التقاطعية لا ترى الجنس كمحدد مُفرد في عملية فهم التمييز. هي ترى عناصر كثيرة أخرى منها درجة التعليم والمستوى الاجتماعي والاقتصادي والقدرة العقلية والجسدية والحالة الاجتماعية والجنسانية وتقاطع بينها. والهدف هو الوصول إلى حالة من تكافؤ الفرص تحترم احتياجات ومقدرات الجميع. فلنقل هي سياسة قائمة على محبة الكل وترفض سياسات العنف والإقصاء والإكراه.
بالنسبة لموضوع الأولويات، وبالعودة لإجابتي السابقة عن المباديء السياسية الذي يعيش المرء وفقها، فأجد أن تحييد العمل النسوي لا يعني إلا تجاهل وجود النساء كمكوّن رئيسي في المجتمع الإنساني أو مُطالبتهن بأن يكنَّ رجالاً. أو ادعاء الرجل باختصاصه بقضايا النساء الذي يُشبه ادعاء صاحب المطعم الصيني باختصاصه بإدارة الفنادق في الهند.  لكن حضور النساء جديد في المشهد السياسي، وهنالك من لا يرغبون بمشاركة المساحة معهن. فلنفكر بالأمر على الشكل الآتي: إن جاءك ساكن جديد إلى المنزل عليك أن تُزيل أغراضك من غرفة الكراكيب في المنزل ليتمكن من النوم فيها، وسيكون عليك إيجاد مكان آخر لحقيبتك غير الكرسي الإضافي على طاولة الطعام كي يتمكن من الجلوس، وإن كان القاطن الجديد لا يأكل إلا اللحم الحلال فلن تتمكن من مطالبته بتناول لحم الخنزير. وربما سيتغير شكل جدول التنظيف في المنزل وحتى أماكن بعض الأغراض كي يصبح مساحة مريحة لك وله. عندما يكون القاطن الجديد امرأة، ربما عليك أيضاً التفكير بالطريقة التي تتكلم معها وتتفاعل معها بها وعلاقة القوى التي تربطك بها. هل ستحاول استغلالها جنسياً؟ هل ستحاول جعلها تقوم بكل أعمال التنظيف؟ هل ستعتبر دخولها في النقاشات السياسية والفكرية تجاوزاً لحدودها؟ هل تحاول استغلال أنها مُبرمجة اجتماعياً على اللطف لتطغى على حضورها بصوتك العالي أو بالتعدي على مساحتها وتحدي سلطتها وقراراتها؟ وإن ارتفع صوتها بالنقاش كي تُسمَع هل ستشعر برغبة طبيعية في إسكاته؟ وإن لم ترفع صوتها، هل ستقوم بدور إيجابي بمحاولة تغيير ديناميكيات الحوار كي تفسح المجال لها بالحضور والتعبير عن نفسها بما يتلائم مع طبيعتها؟ هل ستعتبر حديثها عن أهمية توزيع الفوط الصحية وإجازات الأمومة والتحرش الجنسي وضرورة فسح المجال لتمثيل نسائي أوسع انتقاصاً لرجولتك أو أمراً طبيعي من متطلبات الحياة الإنسانية العادلة؟

عند الحديث عن الوضع السوري، كيف من الممكن صياغة  أي شكل من أشكال السياسات دون أن أفهم موقع النساء فيها؟ كيف سأضع منهجية لعمل منظمة إنسانية أو حقوقية؟ كيف سأتعامل مع ملف المعتقلات والمعتقلين واللاجئات واللاجئين إن لم أدرك بأن للنساء وضع مختلف عن الرجال؟ أشعر أنه يتم فهم النسوية من بعض الأطراف بشكل خاطئ أحياناً، هي ليست التعامل معها وكأنها رجل. كما أن حضور المرأة في الساحة العامة هو بحد ذاته فعل سياسي لأنه يهدد بعض المصالح ويتوافق مع بعضها. طريقة تعامل الرجال مع حضور المرأة والقرارات التي يتخذونها بالتعامل معها وعلى أي أساس توضع لها الأفخاخ أو تُزاح من طريقها هي أفعال سياسية أيضاً. من الضروري فهم أن موضوع التعامل مع المرأة بناء على شكلها وقدرتها المادية والاجتماعية والمسايرة والحضور الجنسي أو انعدام الجنسانية والقبول بالتحرش أو بالممارسات الذكورية من عدمها هو أمر سياسي أيضاً ليس من الممكن التعامل معه دون الاستعانة بالمنظور النسوي والتثقف به.

 10- هل سنرى شاباتنا وشبابنا مجتمعين_ولو افتراضياً_ مجدداً للعمل لحرية سوريا؟ لطالما كنتِ من المبادرات لخلق تلك المساحات وجمع الناشطات والناشطين للعمل معاً، أين أنتِ من هذه الفكرة اليوم؟ ما معيقات خلق مساحة عمل تشاركية مجدداً؟

لا يكفي الاتكال على الشباب الناشط للمبادرة، أحياناً نحتاج لأن نبادر نحن لدعوتهن\م وخلق المساحات لهم. كأي علاقة إنسانية، عندما يشعر المرء بأنه هو المبادر دائماً على حساب صحته ومصالحه سيتوقف في وقت ما. على الباقي القيام بمجهود ما تجاههم أيضاً. أظن بأن شابات وشباب الثورة (نسائنا ورجالنا) كلهم يعملون لحرية سوريا، كل بطريقته وحسب فهمه للمسألة. لكن الظروف تغيرت ونحن لم نعد في بلادنا، شكل التجمعات اختلف. وهنالك بالطبع مساحات لا نعلم عنها شيئاً. كما أنه هنالك كثير من العمل الذي يتم خلف الكواليس، ليس هنالك من خاملين/ات. لكن بعد الخبرات التي تشكلت لدينا بات منا من يفضلون التخصص ودعم ما نستطيع دعمه من المبادرات الجديدة. هذا عدى عن أن كثيراً منا يفضل العمل بعيداً عن الضوء، وبعضنا ربما يأخذون استراحة المحارب التي يستحقونها ويحتاجونها. أرى أن علينا جميعاً دعم وتشجيع من يحتاج الابتعاد والتأكيد لهم بأننا معهم ونحبهم، والثقة بأنهم دائمو العطاء ما استطاعوا إليه سبيلاً. 

ضمن الظروف الحالية أفضل العمل مع مبادرات موجودة بالأصل أو ما يعمل على تشكيله بعض الشباب السوري. أيضاً بدأت العمل مع منصة حِنَّا بخطوات بطيئة ولكن ثابتة على مشروع المبادرة الذاتية لتحقيق النجاة، وهو مشروع مراحله الأولى بحثية، لكنه يهدف على المدى الطويل لخلق مساحات عمل تشاركية لا نرى بأن النجاة الحقيقية ممكنة دونها. هنا مفهوم النجاة هو النجاة الفكرية والعقلية والعاطفية والثقافية والفنية التي تأخذنا نحو هدف حريتنا المنشود. عليّ الاعتراف أن وقتي لا يتسع لأكثر من ذلك، فالعمل في مهنة كتابة السيناريو في أمريكا الشمالية هو مجال مهني متطلب للغاية، خاصة في البدايات. 

*كل ما ذكر في المقابلة يعبر عن رأي من أجريت معهن/م المقابلة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية