إضاءات في فلسفة الحراك النسوي بعد عام 2011

 

*ملك توما

 

كانت الشرارة التي أخرجت الشباب والشابات في عام 2011 من قوقعة الخوف التي أشعلت الرأي العام العربي والعالمي وسميت بـ “الربيع العربي” في الدول ذات الصيت الشائع الأكثر إجراماً وفساداً والأقل تحقيقاً لمعدلات التنمية وبرامج العمل والعدالة الاجتماعية وإسكاتاً لأصوات المعارضين والمعارضات ونشطاء وناشطات حقوق الإنسان، مرت عقود طويلة من الزمن على المنطقة لم نسمع فيها صوتاً ينادي بالحرية والديمقراطية، كان الجميع يختنق من قصص العنف السياسي وتراكم المظالم على أبواب المحاكم ومشاهد الفساد المؤسسي بكل ما تحمله الكلمات لكي يثور هذا الشعب على فاسديه.

هذا ما انعكس بظلال ثقيلة على حقوق النساء بقصص تروى لكن لا أحد ينصف صاحباتها، من الحرمان من التعليم وانتشار أجيالاً كاملة بأغلبية أمية إلى العمل الغير المأجور والحرمان من الميراث والتملك وحقوق الزواج والطلاق والنفقة وما يرافق ذلك من عنف نفسي بشكل مستمر جراء انتهاكات بنيوية وهرمية ممنهجة في هياكل السلطة السياسية والمجتمعية، تجلت في قمع حريات التعبير المحكمة بشكل أكبر على النساء، من الضغط الممارس بدءاً من الأهل إلى المجتمع والسلطات. حيث تعتبر أي محاولة من النساء للتغيير المدني أو لنقد النمط السياسي السائد تجلب غضب العائلة والسلطة لاعتبارات جندرية وأحقية الرجال في التغيير السياسي دوناً عن النساء، فضلاً عن التلويح بالانتقام الجاهز بالإقصاء والتهميش، وصولاً إلى التغييب بالسجون والانتهاك الجنسي المتعمد أن يحدث صدمة في أي عائلة لسنوات طويلة، ما خلق منظومة معقدة تقضي على أي صحوة للنساء تجعلهن يطالبن بحقوقهن المدنية والسياسية.

 

 نساء متحررات أكثر من أي وقت مضى:

 لكن الأيام خلقت تاريخاً جديداً، غيرت النضال النسوي الذي كان مكبوتاً يصارع البقاء، لنضال تقوده النساء الثائرات بشكل متحرر “ولا نتوانى عن قول بأننا أصبحنا نساء متحررات”، بدءاً من التجارب السرية الأولى التي كتبت فيها النساء عبارات العصيان والمشاركة في التنسيقيات والمظاهرات والاعتصامات في الساحات والجامعات والميادين، إلى الأوقات التي شاركنً فيها في إسعاف الجرحى من رصاص الأمن الحاقد، حتى يوميات النزوح وفقدان الأمن والاستقرار، وصولاً لموجات التهجير القسري التي طالت أغلب المدن السورية، واقتلاع السكان الأصليين إلى الدول المجاورة ليبقى النضال مشتعلاً يعبرعن تحول حياة ملايين النساء السوريات وعائلاتهنً في دول اللجوء، وصاحب ذلك أن أصبح شطراً كبيراً من التابوهات السياسية والمجتمعية والفكرية من الماضي بفعل عوامل الثورة التي خلقت حالات مختلفة من الوعي. 

بعد حين من ذروة تفاقم العنف وبفعل مسببات سياساتية وتكتيكية تسرق عبرها ثورات الشعوب وتقتل منظريها الأوائل وتسجن آخرين وأخريات، ومن جهة أخرى فالتعمد في استخدام أساليب الترهيب والاعتقال في المناطق الثائرة والمجازر الجماعية والتصفيات على أسس طائفية وقتل الكرامة لدى الإنسان بالاغتصاب الوحشي في مناطق أخرى، أدى كل ذلك إلى تكوين نموذج شعبي يشعر بالانتقام والندية في استخدام السلاح والقتل عند التهديد بالخطر، وهنا فقد ظن من خطط لتسليح الثورات وشيطنتها بأنه يمكن أن يتم قتل القيم المدنية التي ترفض العنف بكل أشكاله.

هذا التورط من قبل الأطراف الحكومية والغير الحكومية في الحرب، خلق مقاومة لاعنفية من النساء، ورغبة ملحة لعدم التطبيع مع القتل والتسليم به كنتيجة متوقعة للنزاعات الحالية، متعاونة مع الرجال الذين رفضوا الانخراط في أعمال حمل السلاح ضد الديكتاتوريات إيماناً بأن النضال اللاعنفي هو ما يجلب الحل السياسي، وهذا ما تم العمل عليه من إنشاء مساحات معزولة عن العنف قدر المستطاع وترميم فجوات التعليم والصحة والعمل اللائق والتضامن مع الناجيات والناجين من الاعتقال، وصولاً لمتابعة المزيد من العمل المناصراتي والإعلامي والبحثي المنظم لإيصال أصوات القضايا السورية وأصحابها بشكل مركز في سبيل إصلاح ما أفسده صوت التطرف المسلح، والتشرذم السياسي الذي خلق حالة من الاستعصاء منذ سنوات مضت فهذه إحدى  سمات الحراك النسوي للسوريات ضمن هذه المرحلة الصعبة من تاريخ سوريا الحديث.

 

ما الذي يقال حول الحراك النسوي؟

الحراك النسوي هو صناعة تغيير مستمرة بجهود النساء من مختلف الشرائح العمرية والأكاديمية والجغرافية، والقادمات من تجارب فكرية وسياسية متنوعة، واستخدام مفاهيم وسرديات متحررة تؤمن بالحوار والعمل الجامع لخلق هوية واضحة لهذا الحراك من جهة، ومن جهة ثانية يعتبر الحراك النسوي حالة لا تقبل النمطية والإقصائية والتمييز الجندري القائم على النوع الاجتماعي وضد النساء بشكل خاص.

هذا ليس بالأمر السهل على الإطلاق فما تزال العديد من الأطياف المجتمعية ومن منطلق ديني وقيمي محافظ تقاوم بشكل أو بآخر لكل ما هو مطروح من التيارات النسوية، وفي مواضع أخرى تشكك في هذه التيارات وطروحاتها، متمسكين بنصوص وأعراف تحابي ثقافتهم الإقصائية الذكورية، ضاربين بعرض الحائط القيم الإنسانية والفكرية وصولاً للإيديولوجية السياسية التي تدعو للتشاركية والمساواة بين الرجال والنساء والتساوي في الحقوق والواجبات والأهلية القانونية المتساوية.

ويضاف لذلك الاعتقادات التمييزية المقتصرة على الدور البيولوجي والرعائي للنساء، بوصفهنً أمهات ونساء ربات بيوت، لديهنً محدودية في المحاكمات العقلية والإحاطة في السياق المجتمعي العام. لكن تجاربنا في العصر الحالي تؤكد بأن النساء لديهن من الملكات الجامعة بين العقل والعاطفة من جهة وبين المهارات المهنية والقدرة الرعائية من جهة ثانية، ما ينتج عن ذلك مخزون فكري معرفي بمنظور نسوي لديه القدرة على إدراج ثقافة نوعية تعزز من الاحتفاء بالشخصية النسوية المتمكنة، ولعل عملية التوازن والتنظير المشتركة هي ما تجعل تفصيلات الحراك النسوي السوري اليوم متطلعاً أكثر من أي وقت مضى لإنصاف اختيارات النساء وحرياتهنً.

 

لأجل القضايا المحقة:

من المهم التركيز على ضرورة إيجاد الحلول من أجل قضايا الانتهاكات وتفاقمها على كل المستويات بحق النساء والفتيات وتدني جودة الحياة النفسية والمعاشية للسوريات سواءً داخل أو خارج سوريا، وظهور جيل من الفتيات بحاجة لرعاية وحقوق أساسية للنمو نسبة لتدني مستوى الخدمات في البيئات المحلية جراء طول أمد النزاع في سوريا بدون حلول سياسية واضحة وضمن جهود التعافي المبكر الخجولة، التي لا يمكن أن تعطي أي وجه من أوجه التعافي المحلي ولا توقف توالي تبعات العنف الممتد من أيادي سلطات الأمر الواقع ضد النساء بشكل خاص.

لكن النساء في هذه الحالات يصبحنً حلقات دعم متوالية لبعضهن البعض بقدر المستطاع لخلق قوة تجعلهنً قادرات على الاستمرار، أملاً بحياة أكثر أمناً وإنصافاً يوماً ما. والحركات التحررية عبر التاريخ الإنساني تأخذ أبعاداً زمانية ومكانية نسبية، بحسب طبيعة سلوكيات أهل القضية، وأساليب المناصرة النوعية، والقناعة بتأثير تفاعل السياقات النزاعية والغير النزاعية ودوائر العلاقات الدولية في تحديد مصائر الحركات وشكل الحراك، وتفاضلية هل سيبقى حراك محدود بفئات محددة أو سيكون نهج سياسي يبدل المزاج العميق للتوزعات المصالحية.

 

 

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية