أفكار في الانتماء والحرية: عندما نُفلسُ من انتماءاتنا نتعصبُ لها وننغلق عليها 

 

*خولة برغوث

 

نُولدُ وننشأ في مكان لا نختاره، وبشكل تلقائي ولا إرادي نصبح جزءاً منه فنتشرّب قيمهُ، ونتبني قضاياه، إذ لا نملكُ أن نغيّر ممّا يسبغه علينا من سمات الهوية، الاسم الذي نحمله كبصمة مُميزة يدل عن البيئة التي جئنا منها، والثقافة التي تحيط بوعينا، والمُتعارف عليه الذي يرسم خطوط استيعابنا لما حولنا، والموروثات القيمية الاجتماعية التي تصبحُ مقياسًا نقيسُ عليه ونحكم من خلاله، نتخذ مواقف من الحياة ضمن سياقات ما اعتدنا وما سمعنا ورأينا، وبمرور الاختبارات والزمن، وكلما نضجت تجربتنا يزداد التساؤل بيننا وبين أنفسنا حول هذا الانتماء في محاولة لفهمه وتفنيده واستيعاب روابط خيوطه وعُقد تشابكه مع كل ملامحِ شخصيتنا التي بُنيت أساساً عليه، وفي ذلك البحث عن مفاصل الهوية يكون الارتباط العاطفي هو المحرك الأساسي لهذا التشابك، سواءً بالقبول والاستمرار بما وجدنا عليه من حولنا، أو برفضه وإرجاعه لمُحاكمة أخرى نقيسه عليها ونبني من خلالها اختلافًا خاصًا ضمن رؤى جديدة.

أمّا القبول فهو حالة لا تحتاج للشرح كثيرًا، خاصة أنها تنحو لتكون بين الفرد ومُحيطه وما ورثه منه بنوع الدعم المُتبادل، والرضى والتماهي والتصالح مع التفاصيل المُختلفة، والانسياب معها في المُحيط المُتجانس المُنسجم حيث يكون الفرد جزءاً من الكل بكل بساطة، ودون تعقيدات مفصلية كبيرة وحاسمة تستدعي المواجهة أو التغيير.

لكن تكمن المُعضلة في عدم الرضى عن هذه المُسلّمات أو بعضها، والاختلاف عليها، ورفض اعتبارها مُقدسات مُجتمعيّة لا يجوز المساس بها كما يفرض المُحيط الاجتماعي على أفراده، ومن ثم البدء بمُناقشة تطبيقاتها المُختلفة الأبعاد وتأثيراتها على طريقة تفكيرنا أو هيمنتها علينا، في محاولة لتقليص نفوذها في المساحة العاطفية التي لا يمكننا السيطرة عليها في لا وعينا، والتي يكون لها الدور الأكبر في تكوين شخصياتنا، وتحديد نوع سلوكياتنا الروتينية ودوافعنا التي لا نعي ما وراءها،  وخياراتنا التي نميل إليها، فهي تؤثر فينا من خلال نقاط ضعفنا البشري وحاجتنا للقبول والانسجام والأمان المُجتمعي والانتماء للقبيلة. 

هذا الصراع الداخلي يبدأ من خلال تجاربنا مع المحيط والأفكار والأشخاص والثقافة، ويتضح أثرها عندما تبدأ مواقفنا تتغير من هذه المُسلّمات تبعاً لما نمر به من أحداث يومية، ومما تنميه فينا التجارب التي نخوضها فرادى أو في مجموعات تتشكل بناء على ما نطمح إلى تحقيقه بحثًا عن حلول وفرص حياة مُختلفة عمّا وجدنا عليه من سبقنا.

لطالما كان من الأسهل أن ينتمي البشر لما اعتادوا عليه، فيقبلونه بتفاصيله المُختلفة، مُعتبرينه واقعاً وحقيقة لا جدل عليها ولا حاجة لمناقشتها، وبديهيات لا يُعادُ النظر فيها، يتوارثونها ويجدون الراحة في اقتفاء أثر من قبلهم في فهمها وتطبيقها والعيش بها كنمط ومنظومة وحيدة موجودة تتشابك في الأساسيات، وإن اختلفت ببعض التفاصيل البسيطة وتُسمى المُتعارف عليه والمُتَبع من التقاليد.

لكن عند بداية تجربة الهجرة أو اللجوء أو المنفى، وخاصة في ظل اختلاف ثقافي واسع بين المكانين، حيث السابق الذي نستمر في دعوته “الوطن الأم” موطن الهويّة النفسية والاجتماعية الأولى رغم ما نحمله تجاهه من خيبة عميقة كانت السبب الأساس للهجرة منه، وألمِ أننا قد أُجبرنا على تركه لأسباب عديدة تحمل في مضامينها فقدانًا للقدرة على الشعور بالأمان فيه، والوطن الحالي الجديد الذي نسعى أن نفوز بحق المواطنة الحقيقية فيه التي تساعدنا على الشفاء من أزماتنا السابقة بأن نمتلك الفرص لتحقيق طموحات النجاح، والاستقرار، والأمان، والاكتفاء، والتأقلم وكل ما قد فقدناه أو بحثنا عنه في الوطن الأم ولم نجده.

كمن يُولد من الصفر في التجربة الجديدة وتحديات إثبات الذات على المستوى اليومي الحياتي، ففي المُحيط الجديد حيث لا نفوذ ولا معارف ولا تاريخ عائلي ولا حلقة اجتماعية داعمة هناك فقط مواجهة جديدة للفوز بحق العيش بكرامة وبناء الثقة والاحترام مع المجتمع المُختلف الذي قد لا يكون مُرحّباً بشكل كافٍ، ويحتاج للعمل على تنمية أدوات تواصل مختلفة، ليس فقط في تعلم اللغة، ولكن في فهم دقائِق الثقافة ومدلولاتها المعرفية، كل ذلك يتحول لأزمة أخرى حول القيمة الفردية لفرد يحاول الانتماء وخلق مساحة يحظى بها بالقبول، هذا الفرد نفسه الذي -وبنفس الوقت- يعاني التمحيص في قيمه الشخصية الموروثة التي حملها معه جزءاً لا يتجزأ من رؤيته للحياة، وبين القيم الأخرى التي تبدأ في فرض نفسها عليه من خلال واقع جديد قد يكون مُتناقضاً مع معالم الهوية الأولى والعادات الاجتماعية التي تقفز إلى ساحة الوعي لتحتلَ موقعَ المألوف الذي يتحول تحت كل هذه التغيرات لمساحة آمنة في محيط مجهول.  

مُعاناة مُختلفة الأبعاد مع هذا الحس المُضطرب بالانتماء الذي يمتزج برغبة البشر اللاواعية والطبيعية بالحاجة للتأقلم، متناوباً مع الخوف من فقدان معالم الهوية الأصلية في أزمة الدفع الجديد خارج منطقة الراحة، هو شعور بالتهديد سيستدعي آلية دفاع غير واعية عن الذات، وتقوقع وانغلاق عن المُحيط، أو مُبادلته بالعدوانية السلبية الرافضة، أو العنف المُعلن. 

في هذا الصراع الوجودي العميق يصبح الارتداد نحو المألوف أو ما يشبهه بشكل أكثر تعصباً وانكماشًا هو أحد الحلول في محاولة للنجاة، ويظهر من خلال التشبث بتفاصيل ما كانت مهمة بنفس الدرجة في الوطن الأم، أو أنها في الحقيقة كانت مرفوضة.

وكمثال على ذلك حين يصبح الالتزام بطقوسٍ دينية أو ثقافية جزء هام من حياة الغريب في البلد الجديد، رغم أن تلك الطقوس كانت بالنسبة له منفّرةً وغير مقبولة، أو أنه لم يكن يأخذها على محمل الجد في بلده الأم، فهو في واقعه الجديد يصبح مدفوعًا بشكل خفي لمحاولة التماسك حسب ما يعرف ويبدأ بارتياد التجمعات الدينية وتصبح للطقوس عنده مكان الحنين الذي يربطه ببلاده، فهي مكمن قوة يشعر بها مع الجماعة التي تشبهه، إذ أنّه في الثقافة الجديدة يشعر بالتهديد وهيمنة الظرف الواقع لذا ينضم للجماعات الإثنية التي تحمل العرق والانتماء الثقافي والديني نفسه، فكم من عائلة أصبحت تلح على أبنائها باحترام تقاليد ثقافية ودينية مرتبطة بالماضي، وكم من شابات وشبان حوصروا وفُرض عليهم أسلوب الحياة السابقة من والديهم رغم أنها تتناقض مع الواقع الذي يعيشونه، مما يجعلهم في غربة مضاعفة وصراع قيمي مع العائلة . قد يبدو الأمر انغلاقًا أو تشددًا دينيًا يطرأ من جديد كما لو أنه ردة نحو القديم، لكنه في صميمه مقاومة للذوبان وتهديد انسحاق الهوية وطوق نجاة لمن يشعرون بالضعف والوحدة والقلّة في محيط طاغٍ مختلف. 

أو قد تحدث ردة عكسية تماماً تظهرُ كرفض واسع للقديم والتبرؤ منه وإنكارهُ كاملاً. وطبعاً سيولّد هذا الانقسام شعوراً قاسياً، يحمل الكثير من الضياع وفقدان للمعنى، مُختلطاً بالشعور بالنقص والدونية قد يستمر طويلًا وعميقاً كشرخ في الشخصية، لا يتم التعافي منه بسهولة، وينعكس على كل تفاصيل الحياة والخيارات الجديدة. 

 كمثال على ذلك؛ ما قد يصيب الشبان والشابات من انقطاع كامل مع الثقافة السابقة ورفض للغة الأم والتسمي بأسماء جديدة وارتداء ملابس بطريقة قد تبدو غريبة حتى عند أهل البلد الأصليين، وقد يتحول البعض لدين آخر بسبب الشعور بالعار من الهوية السابقة في محاولة لإخفاء معالمها بكل الطرق الممكنة وهذا بحد ذاته صراع يومي مع الذات والمحيط العائلي وأزمة تترك الفرد مهشمًا من داخله فاقدًا لشعوره بالقيمة.

أمّا القلّة المحظوظين فيخلصون بعد مُعاناة داخلية عميقة، ومُحاكمة عقلية راشدة، ومُساعدة مُختصين. إن الانتماء الإنساني يجب أن يكون انتماءً للأوسع والأنفع والأكثر شمولية، واستيعاباً للاختلاف من خلال القيم التي تحترم وتكرم الإنسان لذاتهِ، ولا تمتهن خياره، ولا تعبث بألمه وأزماته، ولا تضعه في محل خوف، ونقص، وتذنيب، واضطهاد، أو احتقار. 

الانتماء مساحة للإنجاز والنجاح والحياة، يصبح كذلك كلما اتسعت أبعاده، واحتوت الخبرات الجديدة والقديمة بكافة تنوعها مع الاستفادة من أفضلها وتجنب مساوئها، على أن يكون الحَكَم على ذلك هو الواقع، بحيث يكون فضاءً مُريحاً لا صراع فيه مع الذات أو المُحيط، وعلى نفس الدرجة من الرضى عن الماضي وقبوله، والحاضر في الانسجام والتكامل معه، ليكون الإنسان السويّ الأكثر قدرة على التأثير دون الفزع المرضي من التغيير. 

في سعينا نحو ترميم ذواتنا المطحونة من القهر نقعُ في قهرٍ مُختلف، وهذا هو الطريق المنطقي لاستعادة المفقود مِنّا، ثم بث التوازن فيه، وحدهُ النقص طريق الاكتمال، ووحده الأسر يجعل الحرية هدفاً نسعى للوصول إليه، من لَمْ يتذوق المر لن يستسيغَ طعم الحلاوة، ولن يعرفَ الفرق، وهنا يكمنُ السِّرْ، فإن سمَّينا الأسماء كما يَجِبُ علينا فستكون الحرية كما الإنسانيّة مُصطلحين لا يكتملان أبداً، وسيكتنفهما الغموض كُلّما أوغل الباحث عنهما في الإيمان بهما، ويزدادانِ تمنعاً كُلّما ظن أنّه قد أدركهُما، وابتعاداً كُلّما لاح له أنّه قد اقترب، إنّنا مخلوقات جُسِّدتْ من طين، ثم عُجنَتْ أرواحنا من النّور، وما بين طيننا ونورنا نمضي في هذا الدرب الذي يرسمهُ الأمل بأن يغلب علينا الأفضل مِنّا، وأنّنا في حقيقتنا كلُّ في جزء وجزءُ من الكُّل، حتى نُحقق الانعتاق الخالص والنهائي، هذا إن كان الانعتاقُ مُتاحاً لِبَشَر. 

تُرى هل هو شطر الدين الذي يقول عن الإنسان: إنّهُ ابن الله، أو إنّهُ المُستخلف عنهُ في هذا التّراب؟

 

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية