التعليم في الشمال السوري بين إجرام الأسد ورحمة الداعمين والاعتراف الدولي

*سلوى عبد الرحمن

احتفاء بالدور الذي يضطلع به التعليم في تحقيق السلام والتنمية والنهوض بالمجتمعات، قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلان 24 كانون الثاني يومًا عالميًا للتعليم.

واليوم ما يزال الكثير من الطلبة يحرمون منه بسبب الحروب. عشرات الآلاف منهم في الشمال السوري ومن كافة المراحل الدراسية، في حين أن الكثير من الطلبة قتلوا وهم ضمن مدارسهم وجامعاتهم. يومًا بعد يوم يزداد الوضع التعليمي في الشمال السوري سوءًا، فالحرب ولدت حروبًا وإيديولوجيات جديدة تتحكم بحياة المدنيات/المدنيين بدءاً من لقمة عيشهم حتى مستقبل أبنائهم.

دمر القصف العنيف المستمر من قبل القوات الروسية والسورية عشرات المدارس وآلاف المنازل، وتسبب بحركة نزوح كبيرة للطلاب وذويهم من مدن وبلدات كثيرة من أرياف إدلب وحماة. و”ما زاد الطين بلة” إيقاف الدعم من قبل المانحين عن مئات المدارس، وبالتالي توقف العملية التعليمية وبقاء عشرات الآلاف من الطلبة من دون تعليم، إضافة لارتفاع أقساط الجامعات العامة والخاصة.  

أوضحت الإحصائية الأخيرة لفريق “منسقو الاستجابة” في بيان صدر مؤخرًا أن النظام وروسيا استهدفتا خلال العام المنصرم 143 منشأة تعليمية، وكانوا قد أكدوا في بيان سابق صدر في منتصف أيلول المنصرم، أن أكثر من 480 مدرسة ضمن مراحل تعليمية مختلفة حُرمت من الدعم المالي بقرار من الاتحاد الأوربي، وبالتالي سيتوقف نحو 350 ألف طالبة وطالب عن التعليم.

عدم توفر الأمان واستهداف المدارس بشكل مباشر حرم الآلاف من الطلبة من التعليم، آخر استهداف كان منذ شهر لمدرسة في سرمين شرقي إدلب راح ضحيتها 4 طلاب ومعلمة.

 بُذلت جهود كبيرة من قبل منظمات المجتمع المدني سعيًا لإعادة الدعم وترميم المدارس، إلا أنها تبقى قليلة مقارنة مع أعداد الطلاب الكبيرة. يخاف الداعمون من وصول الأموال المخصصة للتعليم إلى “هيئة تحرير الشام” أو ما يعرف بجبهة النصرة وتدخل حكومة الإنقاذ التابعة لها في قطاع التعليم، كما لم تتمكن الحكومة المؤقتة أيضًا من تقديم المنح المالية اللازمة. 

 أطلق ناشطات وناشطون حملات لإعادة إنعاش قطاع التعليم، وتسليط الضوء على الآثار الكارثية لقرار إيقاف الدعم على الأطفال والمجتمع، منها حملة “لا تكسروا قلمي” نظمتها مجموعة مناصرة من النساء السوريات ركزن فيها على أثر بقاء الأطفال من دون تعليم من خلال فيديوهات ومعلومات عن واقع التعليم نشرت على صفحة “صوتك ثورة مستمرة” الخاصة بالحملة كمرحلة أولى. 

فاطمة الحجي مديرة الحملة وناشطة قالت: “سنكون أمام كارثة حقيقة إن لم نتمكن من إنقاذ عشرات الآلاف من الطلبة والمعلمات والمعلمين، فربما سيتوجه الأطفال إلى العمل أو الجرائم أو الانضمام للفصائل العسكرية، فضلًا عن الزواج المبكر للفتيات، وسيؤدي هذا إلى انتشار الجهل والأمية في المجتمع، أما عن المعلمات/المعلمين فكلهم معيلون لأسرهم ومن الممكن أن يبقوا أيضًا دون عمل”.

وتابعت: “إن هدف الحملة هو إيصال رسالة للمانحين بأهمية وضع التعليم في لائحة الطوارئ، وأن ينتقل هذا القطاع لمرحلة أعلى من الاهتمام”.

أما عن المرحلة الثانية من الحملة فقالت فاطمة: “سنعمل في هذه المرحلة على إخراج تقرير بحثي جمعي يتضمن واقع التعليم خلال عام 2019 والصعوبات التي يواجهها قطاع التعليم والمتطلبات اللازمة، من أجل حث المنظمات التي تعمل في قطاع التعليم على تقديم هذا التقرير البحثي عند نقاشها مع المنظمات المانحة لوضع ملف التعليم كأولوية لديهم في حالة الطوارئ.

بالعودة لأثر ترك التعليم وما تعانيه الأسر خلال النزوح، تتحدث مروة الحسن (اسم مستعار) أربعينية نازحة من معرة النعمان جنوبي إدلب وأم لأربعة أطفال: “لا أرغب في إعادة إرسال ابنتي (رنيم) البالغة من العمر 13 عامًا إلى المدرسة، مع أنها كانت من المتفوقات في دراستها، لقد تمت خطبتها قبل نزوحنا بأيام لأحد أقارب والدها -رحمه الله- فلا طاقة لي بمصاريف المدرسة، حقًا كنت أرغب بتعليمها لكن الظروف الأمنية والمادية لا تسمح، وأنا حزينة لأجلها ولأجل أخيها غازي البالغ من العمر 16 عامًا الذي ترك مدرسته وبدأ العمل في ورشة نجارة من أجل مساعدتي في تأمين لقمة العيش”.

معظم الطلاب الذين نزحوا من أرياف المعرة بعد الحملة العسكرية الأخيرة تركوا دراستهم بسبب عدم استقرارهم في مناطق قريبة من المدارس، خاصة أولئك الذين سكنوا في مخيمات عشوائية بعيدة عن مراكز المدن.

إصرار على المتابعة رغم الصعوبات

صعوبات شتى تواجه عملية التعليم في كافة المناطق لكنها أكثر سوءًا في المخيمات.

في مدرسة الشهيد “بلال كريم” في البردقلي، الواقعة بين الدانا وسرمدا شمالي إدلب، تحدثت مديرة المدرسة أماني شعبان عن هذه المشاكل: “لا يمكن ذكر كل الصعوبات، لكن أبرزها عدم متابعة أهل الطالبة/الطالب لواجباته المدرسية، فثمة احتياجات أكثر أهمية في حياة العائلة كتأمين لقمة العيش والتدفئة، إضافة لتسرب عدد كبير من الطلاب في موسم قطاف الزيتون لمساعدة أسرهم في المصروف. اكتظاظ الصفوف وعدم القدرة على استيعاب الطلبة من النازحات/النازحين الجدد، وعدم اندماج الطالبات والطلاب الأكبر سنًا ممن كانوا متسربين مع رفاقهم الأصغر منهم، مشيرةً إلى أن غالبية الطالبات والطلاب المسجلين لا يحملون وثائق أو بيانات عائلية مما شكل صعوبة كبيرة في تسجيلهم في المدرسة”. 

أما عن الصعوبات خارج المدرسة، أشارت أماني إلى وعورة الطريق وصعوبة الوصول إلى المدرسة، خاصة إذا كانت الطرق جبلية أو فيها حفر مليئة بالماء؛ إذ يمكن أن تؤدي إلى تزحلق الطالبة/الطالب وتعرضه للأذى، ناهيك عن تلف كتب ودفاتر الطلبة بسبب وقوعها في الطين مع صعوبة تأمينها، منوهة إلى أن المدرسة تضم 500 طالبة/طالب لم تتمكن مديرية التربية عند بداية افتتاح المدرسة من إمدادها بالكادر التدريسي المطلوب، مما اضطر 3 معلمات لتدريس طلاب الفوجين، الصباحي والمسائي، وبشكل تطوعي لمدة شهرين. 

مريم العمر (اسم مستعار) تصر على تعليم ابنتها هدى معتبرة أن الشهادة الجامعية هي سلاح الفتيات، رغم أن الوصول للخيمة التي يتعلم فيها الأطفال ليس بالأمر الهين، وهي تضطر يومياً لإيصالها، إلا أن مريم لم تتمكن من إكمال تعليمها لأسباب أسرية واجتماعية واقتصادية، وتريد أن تحقق حلمها بأن تصبح ابنتها معلمة.

طلاب جامعات الشمال السوري… مستقبل متأرجح بين الأزمات

حسب معلومات نشرها مجلس التعليم العالي على صفحته؛ يوجد في الشمال السوري أكثر من 23 ألف طالبة وطالب جامعي، 18 ألف منهم في جامعة إدلب والجامعات الخاصة، و5200 طالبة وطالب في جامعة حلب الحرة التي انتقلت أواخر العام المنصرم إلى اعزاز ومارع وعفرين في ريف حلب الشمالي بعد خلافات مع مجلس التعليم العالي المرتبط بحكومة الإنقاذ، ويعاني طلبة هذه الجامعات من صعوبات داخلية متفاوتة، أبرزها تأثر جامعاتهم بالوضع السياسي وتقاسم الحكومتان؛ الإنقاذ والمؤقتة في السيطرة عليها وإدارتها في ظل غياب دولي عن دعم التعليم الجامعي، لكنها تشترك في مسألة عدم اعتراف الدول بالشهادات الصادرة عنها، فالأمر يتعلق أيضًا بالاعتراف السياسي والقانوني للحكومات التي تسيطر على هذه الجامعات.

في كل سنة وقت الامتحانات تكون هنالك حركة نزوح جديدة للعوائل من ضمنهم طلبة الجامعات. تتسبب حركات النزوح بتغيب عدد كبير من الطالبات والطلاب -خاصة الذكور- عن الامتحانات الفصلية أو ترك الجامعة لإعالة أسرهم أو الالتحاق بجبهات القتال، غالبيتهم ممن فقد أحدًا من أقاربه خلال القصف على مدنهم وبلداتهم، أما الفتيات قد يُحرم بعضهن من إكمال تعليمهن بسبب بعد مكان السكن الجديد عن الجامعة. 

ميساء الأحمد (اسم مستعار) طالبة في كلية التربية في جامعة إدلب تقول: “لا يكاد يمر فصل امتحاني إلا ويتأجل الامتحان فيه بسبب القصف العنيف المستمر الذي يهدد حياتنا جميعًا، فقد توفي مؤخرًا عدد من الطالبات/الطلاب في عدة غارات جوية في مناطق متفرقة اثنان منهم في أريحا، وطالبة كانت برفقة أخيها على دراجة نارية قضوا بقصف قرب كلية طب الأسنان في إدلب”.

في الشمال السوري لا مكان آمن للدراسة، ولا اعتراف بالشهادات التي قد تكلف الطالبات والطلاب حياتهن/م في سبيل الحصول عليها، سنوات يقضونها في الدراسة عدا عن التكاليف الباهظة التي يدفعونها سعيًا لمستقبل أفضل، وللمساهمة في ترميم نقص الكوادر العلمية الأكاديمية في كافة مؤسسات الشمال السوري.

خلف الجدار التركي تلوح أحلام طلاب الشمال السوري

تبوء غالبية محاولات الخروج من الشمال لإكمال الدراسة بالفشل؛ فالطريق إلى جامعات النظام السوري يؤدي إلى المعتقلات كحال من قبلهم من الطلاب، والطريق إلى تركيا من المعابر سيكلف آلاف الدولارات، أما إن فكر أحدهم بتسلق الجدار العازل بين الدولتين فالموت حتمًا بانتظاره برصاص الجندرمة التركية قبل أن يصل إلى أرض الأحلام.

تقول لبنى العلي (اسم مستعار): “لا أحب مغادرة مدينتي وأهلي ورفاق الجامعة، لكني أتمنى الزواج من شاب سوري مقيم في تركيا أو تركي بشرط أن أكمل تعليمي في جامعة معترف بها، ولأخفف المصروف عن أمي حيث أثقلت وإخوتي كاهلها، فهي تعيلنا منذ أكثر من خمس سنوات بعد وفاة والدي، إضافة إلى أنني لا أملك شهادة سوى من حكومة الإنقاذ الغير معترف بها في أي دولة، والأمر الأكثر تعقيدًا أنني لا أملك بطاقة شخصية ولا جواز سفر فلا مراكز للأحوال المدنية معترف بها منذ تحرير المدينة، نحن فعليًا لا وجود لنا في السجلات السورية أو غيرها”.

تسع سنوات مرت على الطالبات والطلاب السوريات/السوريين، لا سلام وظروف آمنة في بلدهم تساعدهم على إكمال تعليمهم كباقي طلبة العالم، ولا ممر آمناً يهربون عبره لدول أخرى، ربما يمكن أن يحققوا فيها أحلامهم الدراسية لتأمين مستقبل أفضل.