الخصوصية والحريات في زمن الكورونا

*كبرياء الساعور

سيدة سورية تعيش في تركيا تقول فتحت جوالي لأجد رسالة موجهة لي “لقد اكتشفنا أنك خارج منطقة العزل، من أجل خير الجميع يرجى البقاء في المنزل“، لا أدري لماذا عادت بي الذاكرة لصورة سميث بطل رواية 1984 “لجورج أوريل”، حيث تحيط به أينما ذهب شاشات عملاقة تقول له الأخ الأكبر يراقبك. لكن صديقتي الناشطة السياسية، أخبرتني بأنها لأول مرة تشعر بأنها ليست معارضة، وأنها تؤيد إجراءات الحكومة الصحية لحصار وباء COVID-19.

في كتابه الأزمنة السائلة واللايقين يقول “زيغمونت باومان” أن الحكومات بعد أن تراجع دورها في الرعاية الاجتماعية وتآكل دور المؤسسات، تستثمر في الخوف وإعادة إنتاج الخوف، من أجل فرض السيطرة والهيمنة على مواطنيها بذريعة الحماية من الأخطار، لقد غدا الخطاب العلمي اليوم لاعب حقيقي في المشهد ولقد شكك فلاسفة ما بعد الحداثة بخطاب السلطة ودعوا لتفكيكه، واتهم “فوكو” الخطاب العلمي بأنه خادم أمين للسلطة، وتحدث عن علاقة العلم والمعرفة بالسلطة “نحن خاضعون لإنتاج الحقيقة من طرف السلطة وليس بوسعنا ممارسة السلطة إلا عبر إنتاج الحقيقة”.

في الحادي عشر من شهر آذار لعام 2020، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن تفشي مرض COVID-19 قد وصل لمستوى الوباء العالمي، لذا لجأت معظم الحكومات في العالم لتطبيق الحظر المنزلي والتباعد الاجتماعي، وبعضها استعان بالجيش الذي نزل إلى شوارع المدن لفرض ذلك، واتبع في أكثر الدول الديمقراطية إجراءات تقييد الحركة والمراقبة على مواطنيها.

حذر المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في الخصوصية “جوزيف كاناتاكي”، منإجراءات الرقابة الصارمة التي تنتهج لتتبع المواطنين في فترة الحجر المنزلي، في إطار مواجهة تفشي وباء الكورونا المستجد، وقال: “إن هذه الاجراءات قد تؤدي إلى سلب الحريات الشخصية لفترة طويلة”، وفي هذا الوقت اجتهدت شركات التكنولوجيا في تصميم برامج جديدة في هذا المجال.

هل تهدد الرقابة الرقمية الحريات الشخصية وتنتهك الخصوصية؟

تعد الخصوصية حق أساسي من حقوق الإنسان، نصت المادة 12 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه: “لا يجوز تعريض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو في شؤون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته ولا لحملات تمس شرفه وسمعته، ولكل شخص الحق في أن يحميه القانون من مثل ذلك التدخل، أو تلك الحملات”.

ويشهد عالمنا المعاصر في ظل التكنولوجيا الرقمية تهديد متنامي للخصوصية، وفي الظروف الصحيةلطارئة تم تصميم برامج في إطار التكنولوجيا الجديدة لمساعدة مسؤولي الصحة في تنبيه الأفراد لدى مخالطتهم أشخاص يحملون فيروس كورونا، كما تسمح هذه التكنولوجيا في متابعة الأفراد وتعقب الاجتماعات واللقاءات الاجتماعية، وتأمين تبادل المعلومات، ولقد كشفت غوغل وأبل عن مبادرة جديدة تتمثل بإضافة تقنية إلى هواتفهم الذكية، تحذر الأفراد من الاقتراب من مصابين بداء كورونا المستجد.

هناك مخاوف متزايدة من تأثير استخدام التكنولوجيا على الحريات، فلقد عبرت منظمات وجهات حقوقية عن مخاوفها بإساءة استخدام البيانات، التي تجمع عن طريق الهواتف المحمولة عن المواطنين وتوظيفها لغير أغراض الصحة، أو سرقة البيانات واستخدامها من أجل التمييز ضد اللاجئين والأقليات الدينية والقومية والجنسية، الأمر الذي يعرض هذه الفئات لخطر العنف، كما طالبوا في هذه الأزمة الصحية العالمية بضرورة سن قوانين مكتوبة ومحددة المدة الزمنية، وحذر خبراء في هذا المجال من أن الحكومات قد تستغل الوباء للتجسس على المعارضين.

وفي عالمنا العربي الذي يفتقر بالأساس للحريات والحقوق الأساسية، يمكن لظروف الوباء أن تكون فرصة للمزيد من القمع واحكام القبضة الأمنية.

ففي البلدان العربية التي تعج بالاحتجاجات والاضطرابات السياسية، استخدم الفيروس ذريعة لقمع الاحتجاجات، التي نشأت ضد الفساد في العراق ولبنان على سبيل المثال، كما قامت السلطة في الجزائر بمنع التجمعات، وفي إسرائيل استخدم جمع البيانات لأغراض أمنية باستخدام تقنية المراقبة التي تستخدمها عادة ضد الأشخاص المتهمين بالإرهاب.

لقد أصبح فيروس كورونا لاعب أساسي في المشهد السياسي، هناك جدل كثير تثيره الأسئلة التي يطرحها هذه الوباء على البشرية، رأى “فلوريان بيببر” أستاذ التاريخ والسياسة في جامعة غراتس النمساوية في مقاله بمجلة “فورين بوليسي الأمريكية” أن الوباء وفر للحكومات الديمقراطية والاستبدادية فرصة للتعسف وإساءة استخدام القرار وتقليص الحريات.

فبالتأكيد أن الإجراءات الحالية في مواجهة جائحة كورونا قد تنجح في الحد انتشاره، لكن العالم يواجه خطر آخر هو تحول الإجراءات الاستثنائية إلى إجراءات طويلة الأمد تهدد الحريات، وقد يصبح استخدام الإجراءات الاستثنائية في حالات الطوارئ الصحية الحالية، التي تعيشها معظم دول العالم، إلى ذريعة لتعطيل القانون وفرض السلطة المطلقة والاستبداد، في المقابل هناك مفكرين يعتقدون بأن جائحة كورونا يمكن أن تؤدي للتغيير الاجتماعي، وأن هذا التغيير الذي يصنعه الوباء فرصة للتحرر والديمقراطية، الفيلسوف “سلافيو جيجك” يعتقد أن أزمة كورونا تفضح أزمة النظام الرأسمالي، ويبشر بحتمية الانتقال البشرية للشيوعية.

في النهاية لا يمكن التسليم بالكامل بأن كورونا يساعد الحكومات في تقليص الحريات، لأن الحجر يعتبر اجراء استثنائي وامتثال الناس له جاء تلبية لغريزة البقاء من أجل الحفاظ على الحياة.

وفي خضم الحديث عن الحريات فقد تعرضت الصحفيات/ون في بعض البلدان لملاحقات قضائية بسبب توجيه انتقادات لاستجابة حكوماتهن/م، بنقص المعدات لمواجهة الوباء، كما فرضت في بلدان عديدة الرقابة على النقاشات ونشر المعلومات المتعلقة بالوباء على الانترنت، لقد انتقدت إجراءات الحجر الصحي في الصين بأنها لا تتوافق مع المعايير الحقوقية، حيث علقت صحفية من هونغ كونغ: “لو أن الصين تحترم حرية التعبير لما شهدنا أزمة فيروس كورونا، ولسوف تتكرر هذه الأزمة طالما أن حرية التعبير والحقوق الأساسية للمواطنين في الصين غير محترمة.” وذلك في إشارة إلى إنكار حدوث الوباء في البداية.

هل تصبح حقوق الإنسان ضحية لـ COVID19؟

الصحة حق أصيل للإنسان، ويكفل القانون الدولي لحقوق الإنسان حق كل شخص بالرعاية الصحية والحكومات ملزمة باتخاذ التدابير الفعالة الكفيلة للوقاية، لكن هناك مخاوف من أن يؤدي حجز مئات الملايين من الأفراد في منازلهم إلى تراجع الحريات والديمقراطية.

وبهذا الخصوص وجهت منظمات حقوقية عديدة إلى أهمية ضمان حقوق الإنسان، واحترام حق حرية التعبير والوصول للمعلومات ضمن إجراءات مكافحة الوباء.

ومن الأهمية بمكان التأكيد على أن إجراءات تقييد الحركة والحجر الصحي ينبغي أن تنفذ دون انتهاك حقوق الإنسان وكرامة الإنسان، لقد شاهدنا فيديوهات كثيرة في مناطق مختلفة من العالم حيث يقوم رجال الأمن بضرب المواطنين المخالفين وكيل الشتائم.

دعت منظمة هيومن رايتس الحكومات إلى أن “الأولوية في الصحة للجميع وأكدت على أهمية احترام حقوق الانسان”، في تقريرها تحت عنوان الأبعاد الحقوقية للاستجابة لفيروس كورونا، وأنه على الحكومات تجنب القيود الواسعة والشاملة بشكل مفرط، والاعتماد على التباعد الاجتماعي بشكل طوعي، وفي هذا الإطار تلعب التوعية الصحية والشفافية في المعلومات دور هام في إقناع الناس، فالأسلوب الأمثل لمواجهة الوباء العالمي أن تكون الحكومات صادقة وتهتم بالفئات الأكثر عرضة للخطر.

لقد كشف الفيروس هشاشة العمران البشري وافتقار النظام العالمي للعدالة، وخاصة الفقراء واللاجئين والمهاجرين، لذا ينبغي توفير الدعم المادي والاجتماعي للفئات المحتاجة، وللذين أدت إجراءات مكافحة الوباء إلى حرمانهم من الدخل، خاصة العمال ذوي الأجور المتدنية، ومنحهم تعويض بطالة، ولكن الوجه الإيجابي أن الوباء في الوقت ذاته خلق أشكال من التضامن المحلي والدولي.

لقد كشف الوباء عن أهمية دور الدولة في التخطيط والتنظيم، لذا من المهم الموازنة في أوقات الأزمات وحالات الطوارئ الصحية بين حماية صحة الناس والحفاظ على الخصوصية وحريات الأفراد، وأي إجراءات ينبغي أن تشمل ضمانات لحقوق الإنسان، وهذا من شأنه أن يلعب دور هام في الجهود الخاصة بمكافحة الوباء.

*المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة