الصمت المؤلم: نساء سوريا والإخفاء القسري وتأثيره على العائلات

 

*رويدة كنعان

 

أثناء اعتقالي في سجن عدرا المركزي عام 2013 التقيت بسارة، طالبة جامعية عمرها 19 عامًا، متهمة بقتل أحد الضباط. خلال التحقيق معها اكتشفوا أن الضابط قتل وهي في السجن. مع هذا وجه المحقق – قريب الضابط المقتول – تهمة التحريض على قتله. لم تحاكم سارة، وفي عام 2016، أُخذت إلى مكان مجهول ومازالت مخفية، وغيرها الكثير من النساء مثل أمل وفاتن وغيرهن.
سارة أخبرتني يومًا أن حلمها أن تكمل دراستها الجامعية ويكون لها مشروعها الخاص، أن تعيش قصة حب كما تراها في الأفلام، ويكون لديها عائلة وأطفال. لكن ما زالت والدتها تبحث عنها ولم تفقد الأمل، وتتمنى أن تعرف فقط ما إذا كانت على قيد الحياة، وإذا قتلت، أين دُفِنَت؟

أدى الصراع المستمر إلى انتهاكات لا حصر لها لحقوق الإنسان، بما في ذلك اختطاف وإخفاء النساء. حيث تأثرن بشكل غير متناسب بالنزاع في سوريا، وزاد ضعفهن بسبب استخدام الإخفاء القسري كأداة للقمع وإرهاب لإسكات وقمع المعارضة. كما له أيضاً آثار مدمرة على الضحايا وعائلاتهن/م، الذين لا يعلمون ما إذا كان أحباؤهم على قيد الحياة أم ماتوا.

إن ظاهرة الإخفاء القسري في سوريا ترتبط بظاهرة الاعتقال التعسفي بشكل مباشر، حيث تم أخذ العديد من النساء من منازلهن أو اعتقالهن عند نقاط التفتيش، في أغلب الأحيان دون أي تهم واضحة أو مبرر قانوني. في كثير من الحالات لا تملك عائلاتهن أي معلومات عن مكان وجودهن أو سلامتهن، ولا يمكنهن الحصول على أي معلومات من السلطات.
مع العلم أن الإخفاء القسري استخدم كوسيلة لقمع المعارضة منذ بداية حكم الأسد الأب في الثمانينيات، إلا أن السنوات الأولى من الثورة السورية شهدت أعلى نسبة من المخفيات/ين قسرًا. حيث وثقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” حالات إخفاء قسري لأكثر من 112 ألف شخص، بينهم 7000 امرأة، على يد النظام السوري وقوى الأمر الواقع في سوريا منذ عام 2011، ومن بينهم 8684 شخصًا أخفوا على يد تنظيم داعش، منهم 255 امرأة.

 

أثر الإخفاء القسري على حياة النساء وعائلاتهن: بين الأمل والبحث المستمر

في عام 2013 أرسلت رسالة لأخي تفيد بأنني تجاوزت حاجز النظام السوري وأنني بخير. بعد دقيقتين صادفني وصديقي حاجزًا آخر، تم اعتقالنا فقط لأنني صحفية. لمدة أربعة أشهر، لم يعلم أحد خارج حدود السجن أي خبر عني، حتى تم نقلي إلى سجن آخر. تعرضت خلال تلك الفترة، كما تعرضت معظم المعتقلات، لأشكال مختلفة من العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي، وفي كثير من الأحيان للتعذيب وسوء المعاملة إضافة للإخفاء القسري، والذي يمكن أن يستمر بالنسبة للبعض لسنوات، إن لم يكن إلى أجل غير مسمى، أطلق سراحي لاحقاً بعد عشرة أشهر، لكن صديقي ما زال مخفياً لغاية هذه اللحظة، وما زالت ابنته التي ولدت بعد اعتقاله تنتظره وتتمنى أن تتعرف عليه.

في بعض الأحيان تتمنى بعض الناجيات من الاعتقال لو بقين مفقودات أو مخفيات في الأفرع الأمنية لعدم قدرتهن على مواجهة مجتمعاتهن. إحدى صديقاتي في سجن عدرا بعد إخفائها لأكثر من عام في أحد الأفرع الأمنية تم تحويلها لسجن مدني، عندما سمعت اسمها للزيارة فرحت واستعارت ملابس نظيفة من صديقاتها ووضعت أحمر الشفاه لأنها تريد أن تبدو جميلة عندما تشاهد زوجها وأطفالها بعد طول غياب، ومن خلف شباك السجن لم يقل لها زوجها سوى عبارتين: “أنتِ طالق، لا تحلمي برؤية أطفالك بعد.”

في سوريا؛ غالباً ما تواجه النساء الناجيات من الاحتجاز، ولا سيما اللواتي تعرضن للعنف الجنسي أو التعذيب، وصمة مجتمعية كبيرة عند إطلاق سراحهن. يمكن أن يتخذ هذا الوصم أشكالًا عديدة، بما في ذلك الإقصاء الاجتماعي والتمييز وحتى العنف. أيضاً قد تتعرض عائلات النساء المخفيات قسراً للوصم، على اعتبار أنهم فشلوا في حمايتهن من الأذى.

لا تقتصر تداعيات جريمة الإخفاء القسري على الضحايا فقط، بل تمتد إلى عائلاتهن/م، غالبًا ما تعاني عائلات ضحايا المخفيات/ين قسراً في سوريا من ضغوط عاطفية شديدة وعدم اليقين والصدمات. لقد تُركوا دون أي معلومات حول مصير أو مكان وجود أحبائهم، وغالبًا ما يتم استنفاذ حياتهم في البحث عن إجابات. 
قالت لي صديقتي قبل حفل خطوبتها عام 2008 إن هذه أول حفلة تشهدها العائلة بعد إخفاء أخيها منذ 26 عاماً، أي منذ عام 1980.  بقيت والدتها ووالدها ينتظرونه أكثر من أربعين عاماً حتى توفوا في العام الماضي. حتى أن والدتها رفضت قطع شجرتي نخيل بمدخل المنزل لأنها تخاف أن يعود ابنها ولا يعرف عنوان المنزل. ماتوا دون أن يعرفوا ولو خبر صغير عن ابنهم. وغيرهم من الممكن أن يعاني حتى بعد معرفة مصير الشخص المخفي/ة، فمعاناة العائلات تستمر بسبب الصدمة والضيق العاطفي.  

 

العواقب الإنسانية والاجتماعية للإخفاء القسري: انعكاساتها الواسعة في المجتمع السوري 

تتعرض عائلات ضحايا الإخفاء القسري في سوريا أيضًا لخطر التعرض لانتهاكات أخرى لحقوق الإنسان، بما في ذلك التعذيب والاحتجاز التعسفي والقتل خارج نطاق القضاء. قد يواجهون المضايقات والترهيب من الجهات الحكومية وغير الحكومية لجهودهم في البحث عن المعلومات وتحقيق العدالة لأحبائهم وقد يتعرضون للنصب والاحتيال.

صديقتي دنيا اعتقلت وتعرضت للتعذيب بتهمة التورط مع جماعات المعارضة، كما زوجها الذي ما زال مخفياً حتى الآن، وبعد خروجها من السجن طلب أحدهم وهو على علاقة بضابط في فرع الجوية مبلغ قدره 70000 دولار مقابل الإفراج عن زوجها، لكنه اختفى لاحقاً ولم تستطع التبليغ عنه، واضطرت لمغادرة البلاد لتبدأ معاناة جديدة بسبب اللجوء في تركيا مع أطفالها لتتحمل عبء رعاية أسرتها بمفردها.

إن تأثير الإخفاء القسري قاسٍ بشكل خاص على النساء اللواتي فقدن معيلهن أو مقدم الرعاية الأساسي، يكافحن لتغطية نفقاتهن ويواجهن صعوبات في الوصول إلى الدعم المالي أو الخدمات الاجتماعية. غالبًا ما يُجبر أطفال هؤلاء النساء على ترك المدرسة لمساعدة أسرهم على البقاء، مما يعرض مستقبلهم وتطورهم للخطر.

قد يواجهون أيضًا تحديات عملية، مثل صعوبة الحصول على الوثائق الرسمية أو الوصول إلى الخدمات الأساسية. على سبيل المثال، أفادت بعض العائلات بأنها غير قادرة على الوصول إلى الرعاية الصحية أو التعليم لأنها تفتقر إلى أوراق إثبات الهوية الرسمية. ولا تستطيع النساء أن تتصرف بأملاك زوجها المخفي، ولا أن تسافر مع أطفالها في بعض الأحيان.

 

تحديات محاسبة مرتكبي جرائم الإخفاء القسري:

لا يتم إحـراز أي تقـدم فـي هـذا الملـف، مـع عجـز كامـل مـن قبـل الـدول والمنظمـات الدوليـة العاملـة فـي هـذا الشـأن، وخاصــة اللجنــة الدوليــة للصليــب الأحمــر، واللجنــة الدوليــة لشــؤون المفقودات/يــن، مــن الوصــول إلــى مراكــز الاحتجــاز والاعتقــال لــدى النظــام الســوري، أو المســاهمة فــي إطــلاق ســراح المعتقلات/ين ومعرفــة مصيــر المخفيات/ين قسـراً. لذلك نأمل أن تكون الآلية الأممية الجديدة التي تختص في شؤون المفقودات والمفقودين مجدية.

إن تقديم الدعم للأسر المتضررة من الإخفاء القسري أمر بالغ الأهمية. يمكن أن يشمل ذلك المساعدة القانونية لمساعدة العائلات على التنقل في النظام القانوني والوصول إلى العدالة، فضلاً عن الدعم المالي لمساعدة العائلات على تحمل العبء المالي الناجم عن إخفاء أحبائهم. يمكن أن تكون الاستشارة والدعم النفسي هامين أيضًا لمساعدة العائلات على إدارة التأثير العاطفي للإخفاء القسري. يمكن لمنظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية أن تلعب دورًا رئيسيًا في تقديم هذا الدعم. 

نتضامن مع جميع المخفيات والمخفيين قسراً وعائلاتهن/م. ونطالب بمحاسبة مرتكبي هذه الجرائم وتحقيق العدالة. يجب الضغط على النظام السوري وكافة سلطات الأمر الواقع لاتخاذ إجراءات فورية لإنهاء استخدام الإخفاء القسري والتأكد من تحديد مكان المخفيات والمخفيين وإعادتهن/م بأمان إلى عائلاتهن/م.

 

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية