اللغة كأداة لتوسيع الجغرافيا

*عفراء جلبي 

لو أننا جمعنا سكان الكوكب كله، ووقفوا صفوفًا وارتالًا بجانب بعضهم البعض، كما نقف في صلاة الجماعة، هل تعرفون أن كل سكان الكرة الأرضية سيسعون بأجمعهم في مدينة لوس أنجلس وضواحيها، أو لنقل في دمشق وأريافها. نعم كل سكان الكرة الأرضية والذين يقاربون حاليا ثمانية مليار إنسان.


إذن مشكلتنا ليست في ضيق التضاريس الجغرافية، وإنما في ضيق الأفكار التي لا تعود تسعنا، في ضيق اللغة التي نقزّمها فلا تعود قادرة على احتوائنا. نتحدث كثيرًا عن التعدد والقبول ولكن ما زلنا غير قادرين أن نقيس ضيق تضاريسنا الفكرية. لهذا عندما تضيق مساحات لغتنا ستضيق التضاريس الجغرافية مهما كبرت الأرض، تمامًا كما يقول القرآن “ضاقت عليهم الأرض بما رحبت”.


كم من المحزن أن نرى السوري والسورية يعيشون في كوكب وقد ضاقت عليهم القارات والبلاد.


كيف أوصلنا أنفسنا لهذا؟  كيف نمكن أن نعيد توسيع مساحات القبول والرحمة والتكافل بيننا؟


برأيي أنه حتى نفهم القبول والتعددية علينا أن نشخص الرفض والنبذ وإقصاء الآخرين، وعلينا أن نبحث في نوازع التفرد والاستبداد. لأنه لا يمكن أن نفهم القبول قبل أن نفهم الرفض. ولا يمكن أن نقدر الصحة إن لم نعرف المرض.


في اللغة العربية، وفي لغات كثيرة أخرى، نقول “قل لي من تصاحب أقل لك من أنت.” 

ولكن هنا أريد أن أقلب هذا المفهوم على رأسه ونعيد النظر إليه سوية. ولذا سأقول “قل لي من تعادي أقل لك من أنتَ أو من أنتِ”.


قبل أن نفكر في مساحات الصداقة والوفاء والحب، وكل الأغاني والأشعار التي نبذّرها في التغني بكل ليلى وبكل قيس، علينا أن نفكر قبلها في مساحات العداء والأذية ما هو العداء؟ ومن هو العدو؟ ومن هؤلاء الذين نكرههم؟ وكيف يحدث هذا؟


قدرتنا في صناعة العداء والتفنن في توسيع مساحات الخلاف والنزاع تشي بنا وتشي بقيمنا. “قل لي من تعادي أقل لك من أنت”، لأن العداوة هي آلية معينة في التعامل مع الآخر، ولذا هي كنظارة نلبسها، إذا عادينا جهة أو شخصًا فسنلبس نفس النظارة عندما ندخل في حالة العداء. عندما أعرف كيف تعامل عدوك، سأعرف كيف ستعاملني أيضا، أو كيف ستعاملينني، عندما يحدث خلاف بيننا.


كيف نعرّف العدو؟ كيف نعرّف الآخر، الأجنبي، الغريب؟ هل العدو هو من يخالفنا الرأي؟ أو من يقف ضدنا؟ لأنه إن نظرنا حولنا لوجدنا أن تعريفات العداء تفيض خارج حدود من يؤذينا وتطال الكثيرين. ما هي المصطلحات التي نستعملها عندما نتحدث عن شخص نعاديه، أو نعاديها؟ وما هي المعايير التي نضعها لشيطنة الآخر وإخراجه من مساحات الإنسانية؟


هذا ما علينا أن ندرسه بدقة حتى تشفى أنفسنا. 

من المهم أن نتأمل بعلاقة اللغة بصناعة السلام وأيضًا بصناعة النزاعات. لأن اللغة هي مثل الوقود النووي. يمكن استعمالها بأشكال مختلفة. فالطاقة النووية قادرة أن تضيء وتنتج تيارًا هائلًا لتشغيل المصانع وتوليد الكهرباء، وأيضًا أن تتحول لقنابل نووية وأدوات دمار وفناء.


هكذا اللغة أيضًا بين أيدينا وعلى لساننا. لغتنا قادرة على صناعة السلام وقادرة على صناعة الحرب. ولهذا ليس من الصدفة أن إصحاح يوحنا يبدأ بالعبارات الرائعة: “في البدء كانت الكلمة وكانت الكلمة عند الله، كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان، والكلمة صارت جسدًا وحلت بيننا، ورأينا مجده”.


اللغة قادرة على صناعة الوفاء وقادرة على صناعة الخيانة. لأننا كما نفسر العالم حولنا ونتحدث عنه يتحول لحقيقة، وتتجلى هذه إلى واقع وتصبح حياة معاشة. كما نقرأ في القرآن “فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون.” 

كما ننطق، ونفسر، ونتكلم، نخلق واقعًا يعكس أفكارنا وقيمنا. نعم الكلمة تتحول لجسد، وتتحول لواقع مادي، لأن “الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.” واقعنا هو انعكاس لتفكيرنا وقيمنا. 

كيف يمكن أن نصنع سلامًا في سوريا قبل أن نعيد تطعيم الكود الوراثي الثقافي بأحماض نووية جديدة، بحيث تحصننا من أمراض ارتفاع ضغط العداء ونوبات شيطنة الآخر.


هل تتذكرون كيف كان الأطفال في سوريا لسنوات طوال عجاف يقفون كل صباح وينادون بشعارات العداء تجاه كل أنحاء العالم وتجاه بعضنا. تجاه الامبريالية والصهيونية والرجعية، وكل القوى الخائنة التي تتربص بنا. خطاب مليء بشعور التهديد، وعدم الاستقرار وبأن العالم كله ضدنا، وبأننا نحن ضد العالم، وبأننا نحن أيضًا ضد بعضنا.


تخيلوا هذه اللغة كتغريدة صباحية على ألسنة الصغار، والتي انغمس فيها الإنسان السوري لعقود طويلة. لذا ليس غريبًا أنه عندما أراد السوريون/ات تغيير هذا النظام البئيس، سرعان ما انجرفوا لنفس الأدوات ونفس الأسلحة وبخطاب مشابه ولكن في الاتجاه المعاكس. ما زلنا نستهلك لغة الاستعباد والاستبعاد، ونُخرِج بعضنا بسهولة بالغة من الحيز الإنساني، ولا ندرك كيف بغينا على أنفسنا، وأن المساحات الجغرافية تضيق مع كل إنسان ننبذه من بيننا. ولذا حتى لو نجحنا في إسقاط نظام استبدادي بأدوات الاكراه والعنف فإننا سرعان ما سنعيد إنتاج نظام آخر مبني على القمع والإقصاء ولفظ ما يختلف عنا. سنعيد تصنيع النظام بوجوه جديدة إن لم نغير “الكلمة” التي تحكم. إذا أردنا أن نغير واقعنا علينا أن نغير لغتنا وفكرنا. وإذا أردنا أن نوسع عالمنا، علينا أن نوسع لغتنا، حسب مقولة لودفيغ فتغنشتاين، “إن حدود عالمي هي حدود لغتي”.

قبل أكثر من سبعين سنة حدث انقلاب في الفكر الغربي، أو بما يُعرف بـ”الانقلاب اللغوي،” كما سماه لاحقا الفيلسوف النمساوي الأمريكي غوستاف بريجمان، وساهم العديد من المفكرين والفلاسفة في هذا التحول وتطوراته. ويمكن وضع معالم البداية مع فكر خبير الألسنيات والسيمياء، السويسري فرديناند دي سوسير، والذي دفعها لسقف جديد الفيلسوف النمساوي البريطاني لودفيع فيتغنشتاين، وردولف كارنابو، بحيث صرنا نرى أن اللغة ليست أداة حيادية بريئة تعبر عن الواقع، وإنما هي أداة تصنع الواقع، وتنتج شكل علاقاتنا وتكوّن تضاريسنا القيمية. 


قد يرى البعض أن اهتمام الكثيرات منا بـ”جندرة اللغة” وجعل اللغة أكثر قدرة على الاستيعاب والاحتواء والمساواة كنوع من الترف الفكري، ولكن مثل هذه التحولات والتأملات تحدث بعد صدمات حضارية، ومراجعات، ونقد ذاتي. فأحد أهم دوافع الانقلاب اللغوي كان بسبب محاولة التفكر والاقتراب من فهم حربين عالمتين شنيعتين في القرن العشرين. ولذا نجد أنه رغم اهتمام هانس-غيورج غادمر بالتوجهات الظاهرية والوجودية،عند إدموند هسرل ومارتين هايدغر، إلا أن أتون الحرب العالمية الثانية في ألمانيا وكارثة الهولوكست جعلته يميل لاحقًا في مسيرته الفكرية إلى البعد اللغوي في الوجود الإنساني. نفس الشيء حدث مع الفيلسوفة هانا آرندت، والتي أعادت حتى صياغة مفاهيمها في ظل ما حدث في ألمانيا. وكلاهما اهتم كثيرًا بكيفية تكوّن علاقات الهمينة داخل اللغة والفكر، وكيف يمكن أن تكون اللغة نفسها مساحة لنقد وتفكيك هذه العلاقات التي تتجلى لأبعاد مادية وعلاقات واقعية. ولذلك كانت تؤمن آرندت بأن تفكيك النبذ والعنصرية يجب أن يحدث من خلال مراقبة المضامين العميقة داخل لغاتنا المحكية والمكتوبة قبل أن نفكر في التظاهر والاحتجاج. 


في الواقع، قد يبدو لنا الانقلاب اللغوي كظاهرة حديثة وغربية، ولكن معظم الحضارات البشرية مرت عليها لحظات فكرية تأملت فيها علاقة اللغة بالواقع، ونجد أقوالًا تعكس هذا التوجه. فمثلا البوذا يقول: “الكلمات لها قوة الدمار ولها قوة الشفاء. عندما تكون الكلمات فيها الحق واللطف فهي تصبح قادرة على تغيير العالم.” والحكيم الصيني لاوتسه قبل ألفين وسبعمئة عام قال: “اللطف في الكلمات يخلق الثقة، واللطف في التفكير يخلق العمق، واللطف في العطاء يخلق المحبة”. 

وأجدادنا العباقرة كانوا أيضًا مهتمين بعلاقة اللغة بالواقع، تمامًا كما اكتشفوا كروية الأرض قبل غاليلو. (على فكرة أفلاطون أيضًا تحدث بكروية الأرض ولكن ربما لم يُسمع لأنه كان بعيدًا في برجه العاجي في الأكاديميا التي أسسها). 

أجدادنا اكتشفوا علاقة اللغة بالحرب، وكيف أن النزاعات مبدؤها الكلمة كما نرى في هذه الأبيات: 

أرى تحت الرماد وميض جمر ويوشك أن يكون له ضرام

فإن النار بالعودين تُذكــــــــى وإن الحرب مبدؤها كـــلام

فإن لم يطفها عقلاء قــــــــوم يكـــون وقودها جثث وهِام

فقلت من التعجب ليت شعري أأيقــــاظ بنو أمية أم نيـــــــــام

فإن يقظت فذاك بقاءُ مُـــــلكٍ وإن رقدت فانــــــي لا أُلام

فإن يك أصبحوا وثووا نياماً فقل قوموا فقد حان القيـــام

ففري عـن رحالـك ثـم قولـي على الإسلام والعرب السـلام

هذه أبيات لنصر بن سيار، والي هشام بن عبد الملك على خراسان قبل ١٣٠٠ سنة. 

نحن نعلم الآن أنه فعلاً قامت الثورة العباسية حينها مباشرة ولم يدم الملك لبني أمية حتى قرنا من الزمن. ولكن ابن سيار كان يحمل فكرًا أدرك فيه تمامًا أن الحرب مبدؤها الكلام. وكما نقرأ هذه الأبيات الآن ندرك أن اللغة تصبح مثل سفينة الزمن أيضًا، كما يقول غادمر، نتحرك بها في البعد الزماني ونتحاور مع أناس عاشوا قبل ١٣٠٠ سنة، يتحدثون معنا عن أفكارهم ومخاوفهم. هذه قدرة اللغة، هي آلية نتحرك بها في الزمان وبين المشكلات، مثل آلة نقل للمعاني بين البشر وعبر الزمن، ولذا تمكننا أيضا حتى من تخيل واقع جديد في المستقبل. وبالتالي فهي أيضا آلية لنوسع بها تضاريس الحياة التي ضيقناها بأنفسنا على أنفسنا.


لهذا يبدأ التغيير الحقيقي بالكلمة، عندما يُعاد كل من أخرجوا من المحادثة إلى المائدة. فتعود المرأة إلى المحادثة، ويعود المنبوذ المهمش بأفكاره وإبداعه إلى العشاء الكبير، ويصبح مسموحًا حتى للطفلة بالحديث وطرح الأسئلة. “تعالوا إلى كلمة سواء.” هذه الدعوة هي تحدي حضاري لنا بأن نقدر الإيمان بالمساواة كمبدأ أولى نجتمع عليه. علينا أن نفكر نقديًا في كل شيء يعيق كلمة المساواة في التقائنا الإنساني برغم اختلافاتنا، والإشكاليات التي تحدث عندما ينصّب بعض الناس أنفسهم آلهة وأربابًا على الآخرين.


عندما نصبح قادرين على رؤية الاختلافات بلغة جديدة، سندرك بأن تعدد افكارنا هو توسيع لآفاقنا، وعندها ستتوسع تضاريسنا، وسنقدر أن نحتوي ونرحم بعضنا، لأنه حينها حتى لو اختلفنا سنعرف كيف نكون خصومًا عادلين-عادلات، وأندادًا نزيهين-نزيهات، بدل أن نتحول لأعداء قد سجنوا داخل “صراع بقاء” يطحن الجميع.


لهذا من المهم أن نضع مساحات صحية للخلافات والنزاعات، قبل أن نفكر بمساحات السلام والود. لأن قدرة أي ثقافة على إدارة الاختلاف والنزاع بدون السقوط في مستنقع العنف هي رصيدها في صنع ديمقراطية حية. قدرتنا على خلق تضاريس لغوية جديدة هي رأسمالنا لصناعة مستقبل جديد. ويقع على عاتق النساء حاليًا، ومن يشاركهن الهم، مهمة نبيلة في تمكين ثقافاتنا في كل أنحاء العالم من الخروج من الفكر الذكوري الاستبدادي المسلح.


عندما تُعالج الخلافات داخل اللغة، فإن تنوع وجهات النظر يتحول لآلية قادرة على توليد الإبداع والتجديد، بدل أن تتحول لتصدعات وحروب. لأنه حتى داخل أنفسنا نتشاكس مع آرائنا المتناقضة والمتنافرة، وعندها تولد الأفكار الجديدة. هذه سنة الكون وسنة الحياة. التعدد نعيشه داخل أنفسنا وخارجها، ولذلك من المهم أن نخلق مساحات تجعلنا نرى الاختلافات كوقود وطاقة لتفعيل وتحريك ثقافتنا من جديد، بدل أن تتحول إلى بارود نلغي فيه بعضنا البعض.


عندما أنظر إلى اجتماعاتنا في الحركة السياسية النسوية السورية، الافتراضية مؤخرًا، نتحادث ونتبادل وجهات النظر رغم اختلافاتنا والمحيطات والبحار التي تفصلنا، والحظر الذي يفرّقنا، نشعر بصداقة حميمة تنمو بيننا تدريجيًا وأحلام وتطلعات تجمعنا. بل تتحول الاختلافات الفكرية والسياسية لسياقات خصبة لتوليد أفكار جديدة، وتوسيع لآفاقنا الحالية.


برأيي هذه القدرة على توسيع التضاريس هي القوة النووية للغة، وهي قوة مفاتحها بأيدينا حتى تصير الكلمة واقعًا جديدًا وجسدًا جديدًا يمشي بيننا، ويعود للسوريين والسوريات مجدهم في الأرض، ويستعيدوا ازدهارهم وقوتهم في تضاريس العقل والفكر. ونحن قادرات على “فعل اللغة” كما تقول الكاتبة الأمريكية السوداء توني موريسون والحائزة على جائزة نوبل في الأدب. “ليس هناك وقت لليأس، ولا مكان لرثاء أنفسنا، ولا حاجة للصمت، ولا مجال للخوف. نحن نتكلم، نحن نكتب، نحن نقول بفعل اللغة. هكذا تلتئم الحضارات”.


علينا أن نقدر قوة الكلمة. الكون كله مصمم لتنمية الكلمات ولدعم الحق ولدعم الإبداع. لأن مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين، بينما الشجرة الخبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. تماما كما وصّفت آرندت “تفاهة الشر” وسطحيته، وكيف لا يمكن أن يكون له عمقًا أو يمد جذورًا.


قوة الإنسان تكمن في قدرة الرجال والنساء على إعادة توسيع مساحات الرحمة، وعلى كل، الرحمة في اللغة العربية مشتقة من الرحم، ولذا لا يمكن أن توسع هذه المساحات بدون تواجد المرأة وإنتاجها الفكري ومشاركتها في إنتاج الثقافة بدل إعادة تكريرها، تمامًا كما قال الفيلسوف الأكبر ابن عربي، “وكل مكان لا يُؤنث لا يعول عليه!” 

*قسم من هذه المقالة أُلقي في حفلة تخرج النساء في مؤتمر تستقل الختامي مع جامعة جورج ميسين في يناير ٢٠٢١، وأشعر بالامتنان لهن لإلهام جو هذه المقالة ومواضيعها

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة