“بدنا نعيش” وماذا بعد؟

تدخل الاحتجاجات التي تشهدها مدينة السويداء أسبوعها الثاني، وقد اكتسبت تفاعلاً وتجاوباً كبيرين في الشارع السوري في داخل سوريا والخارج. الاحتجاجات التي جاءت تحت اسم “بدنا نعيش” نددت بشكل رئيسي بالوضع الاقتصادي المتردي والذي شهد انهياراً شديداً مؤخراً، لاسيما  للعملة السورية (دولار1 يساوي أكثر من 1200 ليرة سورية)، إضافة إلى تصريحات بثينة شعبان، وهي مستشارة في القصر الجمهوري، ومفادها أن الاقتصاد حالياً أفضل بخمسين مرّة من عام 2011، وأن الدولار لا يمكن أن يُصرف بـ 850، مضافاً إليها جملة أكاذيب أخرى استفزت الشارع السوري المنهك والذي يعاني، إن وضعنا جانباً الوضع الأمني والسياسي للبلاد، من تجاهل سافر من جانب النظام حول تقديم أي شرح أو تصريح يتناول الواقع الاقتصادي بأي طرح يحترم عقول السوريات/السوريين ومعاناتهن/م. وإذ تستمر سياسة النظام بالإنكار الكامل والتجاهل والمغالاة في التعامي عن الواقع المعيشي الذي يعيشه أبناء سوريا، إضافة للفساد الذي نخر جسم الدولة السورية طوال عمر هذا النظام، والذي تفشى بشكل أوسع منذ بدء الحرب السورية ونهب ثروات البلاد، وإفقار السوريين وتهميشهم لم يترك مجالاً أمام المنتفضين اليوم سوى الاحتكام للاحتجاجات والنزول إلى الشارع.

“بدنا نعيش” ليست مطلباً اقتصادياً فحسب

عرّف منظمو حملة “بدنا نعيش”، بأن الحملة غير دينية وغير سياسية ولا تقبل تحييدها عن مطلبها الأساسي بالعيش الكريم، وتحسين الوضع المعيشي والأمني، وتشمل جميع الموجوعين من الشعب السوري دون النظر لدين أو انتماء، سلمية ترفض العنف، مع الحفاظ على كافة ممتلكات الدولة، بعيداً عن التحزبات السياسية والقومية والطائفية. نقلاً عن صفحة الحملة الرسمية.

لا يمكن قراءة الحملة على أنها احتجاج على الغلاء فحسب، فالاحتجاجات المستمرة اليوم في السويداء والتي نقلت إلى مدينة سَلَميَة وكانت ثمة نوايا لنقلها إلى دمشق، لم تقتصر مطالبها على تحسين الأوضاع الاقتصادية، بل شملت انتقادات حادة للفساد والوضع الأمني، وهكذا تصبح الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية مدخلاً وباباً للاحتجاج على الأوضاع كافة.

السويداء، قلب هذه الاحتجاجات اليوم، تعاني منذ سنوات عدة من حالة تفلت أمني وانتشار للسلاح، وتشهد بشكل يومي حوادث قتل أو اختطاف بهدف طلب فدية أو ما شابه. بالعودة إلى عام 1970 عند استلام حافظ الأسد للحكم، تم تهميش المحافظة منذ ذلك الوقت. الوضع الاقتصادي لم يكن سيئاً كما هو الآن، ولكنه كان يعتمد على جهد أهالي السويداء والاغتراب. كان من المفروض أن يكون هناك معبر حدودي لكنه ألغي، كما أن النظام السوري عمد إلى رفض تنفيذ مشاريع المنشآت الاقتصادية وتم تحويلها لمحافظات أخرى، كان هناك تهميش من الحكومة، والمحافظة لم يكن أمامها سوى هجرة أبنائها إلى فنزويلا ودول الخليج، وهذا ما أحيا الوضع الاقتصادي فيها، أي أن المحافظة استعانت بأبنائها المغتربين. أبناء السويداء الآن محاصرون تماماً لا يوجد أمامهم طريق لإدخال المواد سوى طريق الشام، خاصةً بعد الفتن مع محافظة درعا، لاسيما أن طريق الأردن مغلق أيضاً.

حملة السويداء ووهم “حماية الأقليات” فهل تكون “بدنا نعيش” ورقة التوت الأخيرة التي تعري نظام الأسد؟

تزج حملة “بدنا نعيش” بنظام الأسد في مأزق حقيقي. فالأقليات التي تبجح النظام بحمايتها وتأمينها خلال سنوات الثورة السورية تنزل اليوم للشوارع والساحات لتعلن رفضها لسياسات الإفقار والتهميش المتعمدين، وربما يتم رفع سقف المطالب في الأيام القادمة لتشمل تغييرات في الحكومة أو إسقاط للنظام. لكن في كل الحالات، لا تزال ساحات السويداء الممتلئة بالمحتجات والمحتجين المنددات/ين بأوضاعهن/م الأمنية والاقتصادية ضربة قوية لنظام يحتمي بالأقليات ويدعي حمايتها.

كما يخشى النظام من أن عودة الاحتجاجات للشارع قد كسرت جدار الخوف مرة أخرى في مناطق سيطرته، لا سيما وأنه استمر، بعد اخلائه لمناطق المعارضة في درعا وريف دمشق، في نهجه الأمني تجاه كل من يعارضه، وكل من يرفع صوته مطالباً بأدنى حقوقه المعيشية.

أما آلة القمع للنظام السوري فلم تتوان عن الاستمرار بنهجها المخابراتي، فقد صرح عدد من منظمي الاحتجاجات أنهم تعرضوا لاستدعاءات من جهات أمنية حققت معهم ووجهت لهم تهديدات مبطنة وأخرى صريحة.

أما إدارة كلية التربية في السويداء، واتحاد طلبة المدينة، فقد وجهت تهديدات علنية حذرت فيها طالبات وطلاب كلية التربية بالفصل من دراستهن/م، في حال مشاركتهن/م في الاحتجاجات التي تحصل في المدينة.

كما أن أهالي المحافظة يتخوفون من افتعال النظام لحدث “أمني”، من شأنه دب الرعب في المحافظة مجدداً للسيطرة على الاحتجاجات فيها، وإسكات أصوات المعارضات/ين والمحتجات/ين وتذكير الجميع أنه “حامي الأقليات” وأنه يقدم لهم الأمن على حساب الحياة الكريمة وأن الحرب مع الإرهاب لها أثمانها، على غرار ما حصل سابقاً، في حملات مماثلة لحراك “بدنا نعيش”، حيث افتعل في عام 2015، تفجيرين وسط المحافظة قتل على أثرهما أكثر من 30 شخصاً بينهم أحد مشايخ الطائفة في المدينة، رداً منهُ على حملة “خنقتونا” التي شهدت حراكاً شعبياً واسعاً، أو الاستثمار بورقة “داعش” مجدداً بغية إلهاء الجماهير ببعبع التطرف مجدداً عن مطالبهم المعيشية.

تبقى سيناريوهات مستقبل هذا الحراك مفتوحة على جميع الاحتمالات: أمران اثنان مؤكدان يدركهما السوريون أولاً وأبناء المنطقة من لبنانيين وسودانيين ومصريين وتونسيين ثانياً.

الأول، أن ثورات الربيع العربي أفسحت المجال أمام فكرة التظاهر والاحتجاج والتي كلما عمد النظام إلى بترها بالسلاح عادت لتتجدد وتأخذ أشكالاً جديدة، وبمطالب تعكس واقع الشعوب وطموحاتها، وهذا حدد سقفاً وقطع شوطاً لا يمكن اليوم الرجوع عنه، ولن تتمكن الأنظمة المستبدة من الرجوع إلى مرحلة ما قبل هذه الثورات.

والثاني، يأتي على شقين: الشق الأول، هو إدراك أبناء هذه الاحتجاجات أهمية قضية سلمية الاحتجاجات والتمسك بالشكل السلمي للتظاهر، لذا يجب رفض كل شكل للتسلح، ولعمليات الاغتيال، أو الاندفاع بطريقة عشوائية وينبغي ألا ننسى قدرة واستعداد هذا النظام على تدمير المدن بكاملها واتباع سياسة الأرض المحروقة لإنهاء معارضيه، إضافة لاستخدامه ورقة “داعش” والتطرف سابقاً وهو لن يتورع عن استخدامها مجدداً.

أما الشق الثاني، هو الابتعاد عن كل أشكال الاحتجاج الديني أو الطائفي الذي يفسد كل نضال اجتماعي واعد. الأنظمة تلجأ لاستخدام الدين والطوائف كورقة لتطويع الشعوب وسلب إرادتها. لاسيما أن الحضور الديني والطائفي يلغي البعد الوطني ويذهب بالحراك نحو انقسامات جديدة.

ثمة قضايا وظروف كبرى توحد السوريات والسوريين اليوم أكثر من أي أمر آخر. وهذا ما ينبغي إيلاؤه عظيم الاهتمام والتركيز عليه دون الذهاب بالحراك وشبابه لمطالب أبعد مما يتحدثون عنه اليوم على الأقل، وتركيز الجهود على دعم مطالبهم ومساندتهم والاستفادة من الدروس السورية الكثيرة حتى لا يتم اختطاف حراكهم مرة أخرى.