ثقب في جدار الوحشية

 

 *لبنى قنواتي

 

انعقد في الـ 23 من شهر تشرين الثاني في مدينة لاهاي المؤتمر السوري الأول للأسلحة الكيميائية، مؤتمر سوري بقيادة وتنظيم سوريين وسوريات بعد عشر سنوات منذ توقيع سوريا على اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية منذ 11 عامًا على بدء النظام السوري استخدام السلاح الكيماوي، ضحاياه تبعثروا في كل مكان، قلة بقيوا وبقينَّ في سوريا والأخرون هاجروا وهاجرنَّ سعيًا للوصول إلى مكان آمن.

 

أنا وغربتي ومنفاي:

أقف أمام نفسي المنهكة وأنظر مطولاً في مرأتي المتسخة، يخيل لي أني عجوز هرمة، أحاول مراراً أن أمسح الشحوب عن ملامح المرآة لكن عبثا، هذه الطبقة الضبابية تطبع كل قسوتها على ملامحي.

لا أدري كيف لعقد من الزمن أن يمر بهذا الصخب والسرعة، هل كبرت حقًا؟ أم هي الحياة بطعمها المر الجاف، كفم مدخن في الصباح، أم هو ببساطة العطب الذي نحياه كسوريات وسورين من فقد ولجوء ومنفى وخيبات متتالية.

منذ قدمت إلى فرنسا ويتردد السؤال ذاته دومًا عن سبب اختياري لهذا البلد، اسكت للحظات؛ دوما تحيرني الإجابة فأنا لم اختر القدوم إلى هنا، فرنسا كانت الخيار الوحيد المتاح لي للنجاة مع أسرتي من تبعات أي نشاط حقوقي أقوم به في تركيا، البلد المذعور دوماً من الحريات ومن الحقوق.

كل ما يجتاح فكري من ذكريات يبتدأ ويرتبط بكل ما عايشته واختبرته في الثورة السورية وبعدها في المحرقة أو الحرب أو القهر أو لا أعرف حقيقة ماذا أدعو ما حدث لي ويحدث منذ عام 2011.

يحتاج الاستذكار إلى الشجاعة، صفة تم تعليبها في سنواتنا الأخيرة خاصة في بيئات العمل المدني وأصبحت مقرونة أيضا بجوائز وانتصارات، حيث عادة ما وُصف هربي من الموت والخطر والاختناق بالشجاعة، لكن دوماً ما ارتبطت الشجاعة لديّ بالخوف وآليات التعامل معه ولكن لا حل للاختناق.

أريد بشدة أن استعيد ذاكرتي القديمة مراهقتي ووعي الأول في تسعينيات القرن وألفيته، ربما في حقبة من أحلك الحقب التي عاشتها سوريا في العصر الحديث، عصر أفول فترة حكم حافظ الأسد وقدوم عهد بشار.

أذكر الآن تلك النسخة مني بثقل وغرابة وكأنها من ماض موحل وبشع، يهرب عقلي منه دومًا ويشد عليه المتاريس، كيف استطعت أن أحيا ونحيا هناك، حيث لا مساحات نقد للحياة السياسية أو لشكل الحكم ولا حديث عن الحريات والتغيير إلا ما تم منحنا إياه تحت سقف الوطن المليء بالثقوب أو في الزنازين والمنافي.

خوف من الاختفاء أو الاعتقال والتغييب والانتقام من كل من يجرؤ على تجاوز خط الحريات الكاذب الذي ادعاه النظام السوري لفترة طويلة وتبرير ذاتي وجماعي بأنه “الحمد الله على الأقل عايشين بأمان”، أمان هش تهاوى عند أول صيحة للحرية، أما حقيقة الوضع هو رعب من الاعتراف بالخوف من مواجهة القمع والقبضة الأمنية التي تخنقنا وزيف الذي كنا نحياه وأحياه قبل الثورة.

ورغم ذلك، الكثير من الشجعان والشجاعات سعوا للتفكير بأي مساحة حرية ممكنة وانتهوا للأسف مغيبين ومغيبات ومخفيين ومخفيات ومنفيون ومنفيات.

تتطلب الكتابة عن ماضي يحمل حصارًا وتجويعًا وضربات كيميائية الكثير من الشجاعة، أحاول أن استعيد مئات الصور، عشرات الهتافات، أصوات أقدامي أركض للهرب من عناصر الأمن في حي الميدان الدمشقي والرصاص والشوارع والأزقة التي مشيتها، رائحة الغبار المندفع من الأبنية المتهدمة بعد كل قذيفة هاوون ممزوج بأزيز الشظايا الذي يخترق سكون الفؤاد ويخلع القلب والمدارك، الصمت والألم وانقطاع الأنفاس في آب 2013، يعود كل شيء في لحظة يقين مفزعة وكأنه حاضر الآن بثقل كل ما فيه، أفرك عيني وأهز رأسي وقدميَّ في محاولة بائسة للتشبث بالواقع، لكن عبثًا فأنا ما أنكفئ أعود هناك، إلى الغوطة الشرقية، إلى حيث عجنت وتشكلت من جديد، أعود إلى مئات الذكريات والصور وأسماء من قتلنَّ وقتلوا في تلك الليلة، إلى ابتسامات لم تعد هنا وأحلام وحيوات أُخمدت في أَسِرتِها.

 

أرض الجوع والصلابة والأكفان الصفراء:

امتن فعلاً ما حييت للانعتاق من حياتي الاعتيادية بفضل الثورة، ورغم مساحات الحرية التي حاربنا لأجلها في بداية الثورة إلا أن المشهد تغير سريعًا، كما تغيرت طبيعة حلقات الأمان التي تمدني بالقوة، لم يعد أصدقائي وصديقاتي القدامى متواجدون على خارطتي الحالية وأصبح رفاق ورفيقات الثورة هم المحور الأساسي لكل ما أفعل وأساس ما انتمي إليه.

ما خلقته الثورة من انفكاك أكفاننا عنا أتاح هامش من التفكير بواقع بديل لما كنت أحياه، واقع أستطيع أن اعترف به في الألم، وقلة الخبرة والرغبة في التعلم يشاركني رغباتي آلاف من السوريين والسوريات مارسنَّ تضامنًا عفويًا وصادقًا نقلني من انتماءاتي الصغيرة للأسرة والمدينة والعائلة الأكبر إلى الانتماء لمجموعة تسعى نحو هدف سامٍ يتعدى مصالحنا كأفراد، هذا الانتماء الذي مدني بالأمان لمعرفة أني لست وحدي في مواجهه القمع السياسي والاضطهاد الممارس علينا.

لكن لاحقًا ومع تفاقم العنف وانتشار السلاح وبدء معارك التحرير وسيطرة فصائل الجيش الحر، الذي اعتقد أنه بقي حراً حتى نهاية 2013 لا أكثر أو ربما بدأت بعض فصائله تتأدلج قبل ذلك بكثير، باستثناء القلة التي حافظت على تشكيلها الشعبي لمدة أطول، حيث بدأت العديد من الفصائل تفرض سيطرتها على المدن “المحررة” ومدنيها بقوة ذات السلاح المصوب على نظام الأسد، فتغير شكل المساحات، وتغيرت الانتماءات والولاءات، ولم يعد ما يجمعنا أو يقسمنا هو الثورة، بل طالت قائمة التوصيفات التي يمكن أن تسلب حياة أي منا بطلقة، والأمان الذي اكتسبته مع من ثرنَّ وثاروا لم يعد للأسف يبدو آمنًا بشكل كاف.

تم فرض الحصار على الغوطة الشرقية تدريجيًا مع أواخر 2012 حتى أحكم الخناق عليها في تشرين الأول 2013، خلال هذه الفترة استقرت نسبيًا قطاعات نفوذ الفصائل وانتماءاتها الفكرية والدينية والأيديولوجية، ومع ذلك لم نكن نمتلك أيًا مما اعتدنا عليه من الخدمات الأساسية، كنا نعاقب دومًا من النظام على خيار الثورة، بقطع خدمة الانترنت والمياه والكهرباء وطرق الإمداد الغذائي للبشر أو الحيوانات، لا وقود ولا أدوية ولا مواد تنظيف ولا تدفئة.

ثم يأتي الحصار ليركل ذاكرتي مجددًا، يأتي بكل بؤسه المترافق مع الموت اليومي بشتى أنواع الأسلحة التي جربت بنا من قبل النظام وإيران ولاحقًا روسيا، بما فيها الأسلحة الكيميائية.

اعتقدت أن العالم قد يتهاون مع التجويع ومع الحصار الخانق، لكن أبدًا لم تستطع مخيلتي الانحدار للتفكير بإمكانية التسامح مع الضربات الكيماوية ومع مجزرة كالتي ارتكبت في ليل 21 آب في الغوطتين الشرقية والغربية. بعد ضربة الكيماوي وكل التصريحات من المسؤولين الدوليين، بما فيهم الرئيس الأمريكي أوباما، كنا ننتظر عدالة ظنناها قادمة لا محالة لكن المفجع كان استمرار الضربات الكيميائية رغم كل التحقيقات وكل الأدلة وكل الشهود. هناك 5 لجان تحقيق حققت بضربات الأسلحة الكيميائية، وحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان هناك 184 ضربة ارتكبت منذ صدور القرار 2118، الذي أدان فيه مجلس الأمن وبأشد العبارات أي استخدام للأسلحة الكيميائية في سوريا، وخاصة الهجوم الذي وقع في الحادي والعشرين من آب.

اعتبر أن ما حصل في الغوطة الشرقية هو تجسيد للصلابة الممتدة من كل ظروف القهر الممارس علينا، والذي وضعنا في امتحان يومي، أما إنسانيتنا ورغم صعوبة الحفاظ عليها وسهولة التغول والتوحش إلا أن ما كان بين الناس كان صلبًا لم يستطع النظام رغم عتيه أن يكسره إلا بتهجير سكان الغوطة الشرقية قسرياً.

 

ثقب في جدار الوحشية:

لن أتكلم عن ليل الـ 21 من آب وضربة السارين الذي اغتالنا نيامًا، لكن عما تلاه من خيبة في أي مسار للعدالة وخاصة بعد خطوط أوباما الحمراء التي كانت حدًا علينا لا على الأسد ومن أعانه واتبعه ونفذ أوامره بارتكاب الجريمة.

جريمة بحقنا وبحق ذاكرتنا ومستقبلنا نحن سكان ذلك المكان المزين بجثاميِننا، ذاكرتي عن تلك الليلة هي أكفان بيض مائلة للصفار وأفواه ترغي زبدًا وألم لا يمكن لأي صدر في العالم أن يتسع له.

لا يمكن أن يكون ما قبل الكيماوي كما بعده، هذه المجازر وما تتركه من ذكريات تسبب العطب في تلافيف الذاكرة، عطب جماعي وقهر وقلة حيلة، لطالما سألت نفسي ماذا يمكن أن أفعل أمام هول ما حصل، ولسنوات طوال بقيت مشلولة الفعل سوى عن رواية ما أذكره حول ذلك الليل الطويل المحمل بالسارين، لكن ومع المساحات التي خلقها عملي ضمن  فضاء المجتمع المدني السوري ومع الفرص التي أتيحت لي استطعت أن أكون ضمن مجموعات متعددة من الثائرين والثائرات والمدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان لنعمل معًا لتبقى قصصنا حية، قصة من فقدوا أرواحهم/نَّ في تلك الليلة وقصة من نجوا ونجونَّ أيضًا.

طريق طويل ومحبط في ظل غياب الإرادة السياسية للمجتمع الدولي في أخذ أي قرار لمحاسبة نظام الأسد، وفي ظل وجود حليف قوي كـ روسيا يشارك النظام هذه الجرائم ويرعاها.

حاولت منظمات المجتمع المدني السورية وبدعم من منظمات دولية أن تكسر هذا التابو حول استحالة محاكمة الأسد في محكمة الجنايات الدولية باستخدامها مبدأ الولاية القضائية العالمية الذي يتيح رفع دعاوى في بعض الدول الأوروبية.

تم رفع ثلاث قضايا بما يخص الكيماوي إلى الآن في فرنسا والسويد وألمانيا، وفيما يخص الدعوى المرفوعة في فرنسا، والتي حققت تقدمًا غير مسبوق تاريخيًا، فقد تعاون عليها وعلى مدى عامين العديد من منظمات المجتمع المدني.
والتي أفضت بعد شهادات الناجين والناجيات لأن يصدر قضاة التحقيق الجنائي في فرنسا، بتاريخ 14 تشرين الثاني 2023، مذكرات توقيف بحق رئيس النظام السوري بشار الأسد، وشقيقه اللواء ماهر الأسد قائد الفرقة الرابعة في الجيش السوري، بالإضافة إلى العميد غسان عباس مدير الفرع /450/ في مركز البحوث العلمية، والعميد بسام الحسن مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الاستراتيجية وضابط الاتصال بين القصر الرئاسي ومركز البحوث العلمية، بتهمة التواطؤ باستخدام الأسلحة الكيميائية المحظورة ضد المدنيين والمدنيات في مدينة دوما ومنطقة الغوطة الشرقية في 2013، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من /1000/ شخص.

ربما هو خبر لا يقنع الكثيرين والكثيرات، لكن ومع رمزيته وصدور مذكرات التوقيف ورغم معرفتي بأن المحكمة الفرنسية لن تأتي ببشار الأسد ليقف أمام القضاء هنا لكن مازال للخبر وقعًا جميلاً في نفسي، فهذه هي المرة الأولى منذ عقد من الزمن، ورغم كثرة التقارير التي تؤكد تورط الأسد، يقوم فيها طرف بوضع أصبعاً في عينه والاعتراف بأنه مجرم ومطلوب للتحقيق والوقوف أمام العدالة.

يصادف 30 تشرين الثاني اليوم العالمي لذكرى ضحايا الحرب الكيميائية، لكنه أيضًا يشكل أول ظهور لبشار الأسد في محفل دولي وهو قمة المناخ كوب 28، وكأنما العالم بقياداته السياسية يتفق أن يبصق في وجهنا نحن اللواتي والذين نستذكر ألمنا اليوم، وذلك بالتطبيع مع مجرم حرب متهم بارتكاب أعتى الجرائم، خاصة الجرائم باستخدام السلاح الكيميائي.

متعب جدًا هذا الطريق في ظل ضآلة أي أمل بالعدالة، لكنه أزميل نحمله نحن من نجونا إلى الآن، لنحفر ثقوبًا في جدار وحشية النظام على أمل أن يتهاوى قريبًا بلا رجعة.

 

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية