جرائم العار! إلى متى تتنكر بالشرف؟

*سحر حويجة

 بعد عقود من الصمت المخزي، عن إحدى أبشع الجرائم وأقساها بحق النساء، وبحق العلاقات الأسرية، محمية من قبل منظومة قانونية واجتماعية وسياسية متخلفة، تمييزية، شعارها “غسل العار”، تستخدم وسائل عنف تنم عن خطورة المجرم الجاني على المجتمع، الضحايا من النساء، بعضهن تم حرق أجسادهن وهن أحياء، وأخريات تم إفراغ مخزن مسدس في أجسادهن، أو ذبحن بالسكاكين أو تم طعنهن حتى الموت، وفوق ذلك لا يهتز للمجتمع جفن، بل تتم حماية المجرم بالتغطية عنه، وعدم الادعاء عليه، نتحدث هنا على ما ارتكب من جرائم العار عمدًا وعلانيةً، عندما يقصد المجرمين إشهار جريمتهم على الملأ، متحدين القوانين والعقاب، معتقدين أنهم يدافعون عن القيمة الأولى والأسمى في حياتهم، خلال أقل من أسبوع فتاتان قاصرتان تم قتلهن في ضواحي مدينة الحسكة، الواقعة تحت حكم الإدارة الذاتية، التي تعتبر هذه الجريمة كاملة الأركان. إحداهما عيدة السعيدو قتلت رميًا بالرصاص من قبل أبناء عمها وأشقائها، والثانية آية خليفو قتلت خنقًا على يد والدها، آية التي كانت ضحية لجريمتين، الأولى اغتصاب من قبل ابن عمها. إن أغلب قضايا الشرف قد يرافقها ويسبقها عدة جرائم عنف ضد المرأة الضحية، اغتصاب أو خطف، تعذيب بالضرب والحبس في البيت إضافة إلى العنف اللفظي.

 أيضا بشار بسيسس قتل أخته علنًا، رغم أن القانون التركي يعاقب مرتكب هذه الجريمة بالسجن مدى الحياة. وقبله أبو مروان من ألمانيا قتل زوجته رغم أن القانون الألماني سوف يعاقبه بعقوبات قاسية. في كل هذه الجرائم المذكورة استخدمت وسائل التواصل الاجتماعي كمسرح للجريمة، عبر فيديوهات، لن يختلف اثنان حول مرتكب الجريمة، عمدًا وقصدًا، وسيد الأدلة إقرارًا مصورًا من القاتل.

 من جهة أخرى  تُرتكب عشرات الجرائم ضد النساء وتُدفن جثثهن، ويتم القتل باسم الشرف ويُزعم أن الفتاة توفيت صدفة أو بطلقة طائشة أو حتى الادعاء من قبل عائلتها أنها تزوجت أو سافرت، يقتلن سرًا خوفًا من الوصمة الاجتماعية ومن العقاب.

 منذ أكثر من خمسة عشرة عامًا، مع بداية إحياء منظمات المجتمع المدني، أخذت الأصوات المنددة بجرائم الشرف تعلو، وتم تسليط الضوء على هذه الجريمة البشعة، من قبل المنظمات النسائية، مدافعات عن الضحايا، ومطالبات بإنزال أقسى العقوبات بالمجرمين، الذين يرتكبون جريمتهم بذريعة الشرف. وتوج نضالهن بحملة سميت الحملة الوطنية لمناهضة جرائم الشرف، وكان على رأس مطالبها إلغاء المادة  548 من قانون العقوبات التي تحمي القتلة.  

 تنفست النساء السوريات الصعداء بعد صدور القانون رقم 2 لعام 2020، الذي بموجبه تم إلغاء المادة 548 سيئة الذكر، التي تحمي الجناة، تدرّجت هذه الحماية للقاتل من إعفاء الفاعل من كلّ عقاب، مستفيدًا من العذر المُحلّ، حتى تم تعديل المادة في عام 2009، ليستفيد الجاني فقط من عذر مخفّف ينزل بالعقوبة إلى الحبس سنتين في القتل كحدّ أدنى، كما طال المادة تعديل ثان في عام 2011 حيث أصبحت العقوبة الحبس من خمس إلى سبع سنوات في القتل، إلى أن أُلغيت هذه المادة نهائياً بالقانون رقم 2 لعام 2020.

 غير أن جرائم الشرف لم تتراجع، على  الرغم من إلغاء المادة 548 بل نجدها في ازدياد، كل ذلك يدفعنا للبحث أكثر حول هذه الظاهرة وأسبابها وضرورة وضع حد لها. 

في عام 2010 احتلت سوريا المرتبة الثالثة بين الدول العربية في قائمة “جرائم الشرف” بعد اليمن وفلسطين، وفق إحصائية نشرتها آنذاك جريدة الوطن السورية، ووفق الصحيفة نفسها في تموز 2016 نقلاً عن  المحامي العام لريف دمشق، القاضي ماهر العلبي، أن “جرائم الشرف”، وبالاستناد إلى “مصادر قضائية” زادت أربعة أضعاف ما كانت عليه سابقًا أي قبل الأحداث الدامية. 

 غير أن الأرقام الحقيقة أكبر بكثير من المعلنة، لأنه عادة لا يتم الإبلاغ عن الجريمة للتستر على الجاني وحمايته، ولا سيما أنه أحد أفراد العائلة. 

إنّ واقع الحرب وتداعياتها أدت إلى تزايد كبير بعدد تلك الجرائم. بسبب الفلتان الأمني وانتشار السلاح، الذي يساعد في نقل عبء الجريمة وإمكانية فرار مرتكب الجريمة. النزوح واللجوء، العيش في المخيمات، والتجمعات غير المصانة بالجدران، والاختلاط خارج إرادة القاطنات/ين، يضع المرأة عرضة للتحرش، والمضايقات وزيادة الرقابة على حركاتها واتهامها، ما يسبب في انتشار جرائم الشرف في هذه البيئة الاستثنائية للإقامة. الظروف الاقتصادية الصعبة وما يرافقها من عنف في الأسرة تكون ضحيته الإناث، تزويج القاصرات، خلافات عائلية حادة، وارتفاع معدلات الطلاق، أسباب تساهم في ازدياد عدد ضحايا الشرف. إن اعتقال النساء وخطفهن ساهمت في زيادة ضحايا جرائم الشرف، خروج المرأة للعمل والسفر بمفردها دفعت ثمن تحررها خاصة في دول اللجوء إلى أوروبا، الاتجار بالبشر واستغلال ظروف النساء والوشاية بهن تؤدي إلى زيادة قتل النساء بحجة الشرف، الفكر المتشدد وفرضه على المجتمع، يزيد من معدل هذه الجرائم.

 السبب الحقيقي وراء الكثير من جرائم الشرف، يعود إلى خلافات اجتماعية كإرغام الفتاة على الزواج، أو زواجها من شخص من دين أو قومية مغايرة، أو الدخول في علاقة عاطفية مع شخص ترفضه العائلة، وقد يكون القتل بسبب خلافات مالية كخلاف على الميراث مثلاً، إلا أن مرتكبيها يستغلون “الشرف” للتنصل من العقوبة أو لتخفيفها. كذلك قد يكون القتل بدافع التغطية على جريمة أخرى، كسفاح القربى أو الاغتصاب و استسهال اللجوء إلى العنف، وذلك في إطار انتشار “ثقافة العنف ضد النساء ” هذه هي الأسباب المباشرة لقتل المرأة بداعي الشرف. أما الأسباب العميقة والحقيقية التي تقف وراء هذه الجريمة، تتلخص بثقافة العنف ضد النساء التي تمتد عميقًا في العادات والتقاليد، التي تتوارث باسم المقدس أحيانًا، وتساهم السلطات عبر سن قوانين تمييزية ضد المرأة. 

إن كل عنف ضد المرأة يتضمن بالضرورة تمييزًا لها على أساس الجنس، المرأة تستهدف بالعنف باعتبارها امرأة، لا باعتبارها إنسانًا أو مواطنة، تستهدف على أنها كائن من نوع خاص. 

 ثقافة العنف، تجعل جسد المرأة ملكًا للزوج أو للأسرة وهي منقولة من البنى المجتمعية التي كانت فيها المرأة موضوع تبادل، الحفاظ على تصورات قديمة للشرف تربطه بالحياة الجنسية وتقصره عليها، وتجعل جسد المرأة مجال رمزي للرجل بحيث أن شرفه لا يتلوث بما يعقده من علاقات، بل يتلوث بعلاقات قريباته برجال آخرين.

 على صعيد القانون على الرغم من وجود التمييز في كثير من التشريعات، لكن المجال الذي تبرز فيه اللا مساواة بين المرأة والرجل، ويتسم فيه تطور التشريعات بالبطء هو قانون الأحوال الشخصية، حتى يبدو كأنه الضمان الوحيد لعدم اضمحلال الأدوار الجندرية التقليدية، قوانين مهووسة بفكرة الشرف القديمة، وفكرة ملكية الزوج لزوجته، وفكرة حفظ الأنساب الأبوية، وحفظ الانتساب إلى جنسية الأب، تشريعات تضع المرأة تحت وصاية الأب والزوج، ولا تمنع تعدد الزوجات، و تنص على طاعة الزوجة للزوج، وتشترط موافقة الزوج على عمل زوجته، وعلى سفرها خارج البلد، ولا تمنح الجنسية لأبناء المتزوجات من الأجانب، وتمنع زواج المسلمة من غير المسلم، وتمنع الإجهاض، وتميز بين المرأة والرجل في جريمة الزنا، الرجل لا يعتبر زاني إلا إذا وقعت جريمة الزنا في منزل الزوجية، بينما جريمة المرأة تتحقق أينما وقعت. تؤثر هذه القوانين التمييزية على الرّبط بين الشّرف وقتل الأنثى.

 صعوبات تواجه تطبيق القانون على القاتل

 يبدو القانون في المناطق السورية، التي تقع تحت قوى الأمر الواقع المختلفة، والتي تختلف في القوانين واجبة التطبيق، يبدو القانون متهاونًا عاجزًا بل وقاصرًا عن تطبيق عقوبة رادعة بالمجرم؟ 

 في مناطق النظام وفي المناطق التي يسيطر عليها الجيش الوطني المدعوم من تركيا، حيث يطبق قانون العقوبات السوري، وبسبب عدم وجود مدعي شخصي في هذه الجرائم، يطالب بحقوق الضحية، وبالتالي لا يوجد محامي دفاع يسوق الأدلة التي تدين القاتل ويثبت أنه لا وجود لدافع شريف لهذه الجريمة، وإن جريمته مكتملة الأركان جريمة القتل العمد أو القتل القصد. أما المجرم سيجد من يدافع عنه، سوف تسعى عائلته إلى توكيل محام للدفاع عنه، وبالتالي سيكون القاضي أمام تطبيق أحد نصّين لتخفيف عقوبة الفاعل، إمّا أنْ يذهب إلى اعتبار الفعل ارتكب بثورة غضب شديدة فينطبق عليه نصّ المادّة 241 و242 ويستفيد منْ عذر مخفّف، أوْ يطبَّق عليه نصّ المادّة 192 المتعلّقة بالدّافع الشّريف. 

أما في المناطق التي تسيطر عليها الإدارة الذاتية، ووفقا للمادة 17 من قانون المرأة الذي أقرته الإدارة الذاتية، في مناطق شمال شرق سوريا يتم “تجريم القتل بذريعة الشرف واعتبـاره جـريمـة مكتملـة الأركـان”.

غير أن الإدارة الذاتية تواجه تحديات مجتمعية، مع المكونات العشائرية التي لها قوانينها العشائرية الخاصة، مسكوتًا عنها لضعف قدرات الإدارة الذاتية في السيطرة وتلبية حاجات المجتمع، وتجنبًا للصدام، تتخذ العلاقة شكلاً يقوم على تسويات ومساومات، لكسب تعاونها، حيث تتمتع البنية العشائرية بدرجة من التماسك، في مواجهة قوى الأمر الواقع،  لها سلاحها وهي المعنية بحماية أفرادها، وتكون علاقتها بقوانين الإدارة الذاتية واهية، خاصة أن الإدارة عاجزة عن تقديم الخدمات اللازمة لهذه العشائر، لذلك تتمتع هذه العشائر بدرجة من الاستقلالية، حتى أن الاستعراض المبالغ به في جريمة قتل عيدة، فيها الكثير من التحدي لقوات الأمر الواقع، من المؤكد أن العشائر ترفض القوانين المدنية التي تسير عليها الإدارة، ولا يستبعد وجود خلافات سياسية عميقة بين العشائر والإدارة، ربما يستخدمون هذا الاستعراض للجريمة، بغاية استدراج الشرطة الاسابيش إلى اقتحام الحي التي تقطن بها العشيرة، وافتعال معركة؟ بعد مضي أسابيع لم تستطع الشرطة الاشابيس على اقتحام الحي والقبض على المجرمين رغم كل الضغوط التي مارسها الإعلام ومنظمات المجتمع المدني لتأخذ العدالة مجراها.

 أما المناطق التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام، حيث المغالاة وكثرة القيود على حركة النساء، ولباسهن والاختلاط حتى على وسائل التواصل الاجتماعي، قد يجعل العقوبة من قبل سلطة الأمر الواقع، باتهام المرأة بالزنا ورجمها حتى الموت، وتطبيق الحدود بكثير من الاستسهال دون الأخذ بالشروط  الكثيرة التي يطلبها الشرع لتطبيق حد الزنا، وقد تتم اصدار التهم والأحكام دون شكوى بل مجرد وجود شبهة على امرأة، أما في حال ارتكبت جريمة شرف من قبل أحد أفراد الأسرة، حيث يقوم الجهاز القضائي التابع لهيئة تحرير الشام، بفرض أحكام بالسجن لا تتعدّى 10 أشهر كأبعد تقدير على مرتكب الجريمة.

كلمة أخيرة، إن العنف الجنسي والجسمي والنفسي ضد النساء منتشر في كل أنحاء العالم ولكن ما تختلف فيه المجتمعات والحكومات هو مدى اعترافها بالظاهرة، ومدى سنها للقوانين التي تحمي النساء من العنف أو تنصف النساء المعنفات وتقاضي معنفيهن. لإدانة العنف ضد المرأة ورفض ما يسمى خصوصيات ثقافية تبرر العنف،  لا بدّ من حسمٍ قانوني بحزمة تشريعات تُجرّم كلّ أشكال العنف ضدّ المرأة وعلى رأسها ما يُدعى بـ “جرائم الشّرف” وتشديد عقوباتها كإحدى أخطر الجرائم على المجتمع، وتغيير كل القوانين التمييزية، وكذلك ضرورة العمل الحثيث على تغيير الثقافة التي تبرر التمييز والنظرة الدونية للمرأة.

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة