سرديات نسويّة

 

*خولة برغوث

 

1

كما كلّ النساء اللاتي يبدأن في التفكير ليفهمنَ سبب ما يعتريهنّ من غضب مُمتزج بحواسهنَّ، ولحظات يومهنّ، وما يمر عليهنّ من مواقف.

كان كل ما تدركه هو ذاك الألم الذي تحسه، وتراقب مشاعرها عن بعد، المُنفصل عن ذاتها لتتخذ خطوة أبعد، أو لتغوص أكثر، لا فرق في حالها فالمهمتين على نفس القدر من المشقة. كانت تعي كيف أصابها مللُ أن تبحثَ عن وسيلة تجعلها تخرجُ من هذا التراكم الذي يسحق كل شيء فيها، نعم المللُ أداة أخرى لليأس أو ربما لفقدان شهية الحياة، الاستسلام.

في بلاد تجد المرأة نفسها فيها كائناً من الدرجة العاشرة، وليتحول جسدها الذي تسبغ عليه الثقافة اللاقيمة والقيمة المُطلقة حينما تتمحور من حوله كل مفاتيح السُلطة والاستبداد، تناقضات أنها مُشتهاةٌ حتى آخر إمكانية لاستخدامها، ومنفية ومسحوقة حتى إنكار كل ما تحس وتريد، هي وسيلةٌ فقط ليسَ أكثر.

كل الثقافة السائدة بمنابعها التي تغذيها تُكرّسُ أن المرأة مُجرد وسيلة لمُسميات عديدة، تبدأ بما يطلق عليه “الشرف”، وتصلُ إلى أن تكون واسطة للعبور نحو منصب أو حظوة.

فذاك الأخ أو الأب الذي يُعلّقُ ذكورتهُ على جسدها مُرتدياً رداء طهرانية مُزيفة كنوعٍ من التشرّف على حسابها، مُعتقداً أن مقامهُ الاجتماعي منوطُ بما تفعلهُ هي، هو نفسه لا يمتلكُ رادعاً حينما يتعلق الأمر بأن يحيا نزوة مع أنثى أخرى لا تخصه، كما ذلك الزوج الذي يُطلقُ براكين الغيرة مُثبّتاً أنه المالك لها جسداً وروحاً وقرارًا، وأنها حرمهُ الذي لا مساس له، لا يتوانى حينما يمكنه أن يقتحم حرم ذكرٍ آخر مُستغلاً انشغال الراعي للتلصص على “غنمات أخريات”- مُدهش ذاك التشبيه بالراعي والرعية والقطعان حينما تصبح الجموع في تعبيراتها الثقافية مُجرد بهائم- تلك الثقافة التي لم تخرج في شرفها عن مساحة الأعضاء التناسلية لأنثى قد يكون القهر قد أرغمها هي أيضاً على التجارة بها من وراء حجاب، أو نوعاً من انتقام تمارسه وهي تحيا لحظات سُلطتها المُؤقتة على المُعتدين عليها.

هذا ما كانت تفكر به وهي تشعرُ بالقهر المُمتزجَ بالمهانة كـدوامةٍ مُفرغة تدور وتدور، هي ضحيتها الأولى وليست الأخيرة فالأنثى بهذا الألم قادرة، وبشكل فاضح، أن تصبحَ من دون أن تدري هاويةً فاغرة الفاهِ، سحيقة، يسقط فيها مُجتمعٌ كامل بنسائه وذكوره، وربما صغارهُ أيضاً في تباهٍ عجيب بالفضيلة البعيدة جداً، بل إنها المُغرقة في الخداع. إنها فضيلة القدرة على إخفاء الحقيقة، فضيلة نسج الكذبة الأكثر بقاءً واستمراراً وسطوةً.

 

2

كتبتْ عن هذا بضع خواطر، وكانت تعرفُ أن التوسّعَ بالأمثلة سيفتحُ عليها باب جهنمِ ذاتِها والمُحيط، وأنّها حينَ سَتُشَرِّحُ بمبضعِ قلمها ما تعرفهُ؛ ستغوصُ أكثرَ في جُثتها وجثث جاراتها وصديقاتها وكل نساء تلك الثقافة التي لم يعد لها من عمادٍ سوى التمسك بالكذب وابتكار طرق جديدة له.

نعم؛ كانت تعرف جيداً أن خوض تفاصيل المستور والمسكوت عنه هو بابٌ لن يُغلق أبداً، بل سيكون مع الوقت اكتمال الخراب الذي يركدُ تحتَ مظاهر التفاصيل اليومية للتظاهر والرياء، أو يكون بوابةً للعبور نحو تغيير ما، وليسَ بالضرورة أن يكون هذا التغيير نحو ما يدعى بالفضائل أو ما يتعارف عليه بالأخلاق. قد يكون، وهذا هو المُرجح، لردة الفعل تغيراً نحو عُهرٍ يمتلكُ فضيلة الصراحة وجرأة الوضوح، وعدم التستر، ووقاحة مُمارسة السريّة علناً. إذاً، هي تفتحُ أبواب جهنمِ المجهول.

فكرتْ. لا بأس.

لعلّها بذلك تمنحُ الحاضر المعيش قداسة فرصةِ فتح الجرح المُلتهب لينزَ قيحُهُ ليكون للجسدِ فرصة شفاءٍ ما. وإن كان هذا الشفاء مُجرد انسجامٍ ما بين عُهرين.

الانفلات من كل ضوابط مُزيفة، وقبول أنها حقيقة ذاتٍ بشريّة في طريقها للاعترافِ بمآلاتِ، عبورها، وخطيئتها، وتناقضِ ما تظهرهُ وما تُخفيه؛ فتتعلم أن تستقر على ألا تعود للكذب، أليسَ هذا بحدِ ذاتهِ انتصاراً؟!

 

3

أن تكون طفلة عُلّمَت أن الفضيلة هي إخفاء الجسد والتحفظ في التعبير عنه، وإنكار ما تشعر به من تغيرات أثناء النمو، ومحاولة اكتشافها من مُنطلق الحرمانية والعورة؛ مما يراكم في داخلها شعور العار من أنها تغدو مع الوقت أنثى، ولا تفقه من هذا التحول سوى المقدار الجديد المُضاف من المنع والتقيد والاتهام حيث يُشار إلى جسدها الذي تبدو عليه مظاهر النضج كمن ارتكبت ذنباً يُهمسُ به من وراء ظهرها. لا أحد يجرؤ على هذا الحديث علناً وبصراحة. تجد نفسها في دائرة من اللا مفهوم والغامض بين مفصلي التذنيب والإثارة. ثم؛ وبمرور الوقت يصبحُ منوطاً بها أن تؤدي دوراً مُضاداً؛ فعليها أن تتقن دور بائعة الهوى، بل وتصبح مُطالبة بهذا كي تثبت أنها الزوجة الصالحة القادرة على إغرائه واستفزاز ذكورته سعياً لإرضاء نزواته، وأملاً بامتلاكه كي لا تأخذه الأخرى الموجودة دائماً في الخلفية، فيكون عليها أن تلعب الدورين معاً- البراءة السذاجة والغواية المُحترفة- لا أريد استعمال كلمة أخرى- كل ذلك يضعها في تناقض مع جسدها الذي يجب أن يكون في كلتا الحالتين وسيلتها للقبول الاجتماعي بمعنييه الواسع والضيق، ويتكرّس في داخلها شعور بأنها سلعة وأداة لمُجتمع ذكوري يتلاعب بها حسب الموقع الذي يضعها فيه، ويجعلها subject يسقطُ عليه  ظنونه وأوهامه وشهواته المكبوتة، وحكمه الناتج عن شعور العار الذي يدعوه بالشرف.

 

4

يظنِّ أنه بسطوته على جسدها، واستخدامه كأداة استعراض لذكورته سيمتلكها، لكنه يقع في عقدة الإخفاق حينما لا يستطيع إيصالها إلى ذروة الاعتراف بحضوره كرجل، ويدرك أنه حينما لا يصلُ إلى روحها لن يمتلك تلكَ الحياة التي بين يديه.

تلك الروح التي يسعى لتطويعها واستعبادها ما وراء الجسد. ثم يقعُ في العجز الذي يدفعه للانتقام منها وهو لا يدري أنه بذلك يكون ضحية نفسه أيضاً.  

يعرف أن وسيلتهُ للوصول إليها والوصول بها نحو انعتاق الروح في جسدين، والتحامها في كينونة واحدة تبدو مُستحيلة بعيدة المنال، أنانيته القاصرة مُثيرة للتقزز والإشفاق معاً، تفتقد ذكورته القدرة على لمس شغاف الرّوح العتيقة الأنثوية تلكَ التي تُحلق طلباً للحرية في الجسد كما هي تتجلى في المدارك، الأنثى في كينونتها الأصيلة حرّة رغم كل ما قد يحاصرُ جسدها من قيود.

استوقفتها هذه الومضة لبرهة ثم تساءلت: ترى أهكذا كانت رابعة تُحس؟ ترى لذلكَ جعلت من الله “القوة المُطلقة المجهولة” موضوعاً لشغفها وبوحها مُجسِّدَةً به احتياجها الأنثوي للامتلاء برجل؟ رجل حقيقيّ قادر على الاكتمالِ بها ومعها.

هل يا ترى كان ذاك المتصوفُ في مُناجاته الملتاعة لله يُجسِّدُ جزءهُ الأنثوي ليتكامل مع الله في الثقافة؟!

أم أن الإله كان دائماً أنثى مهما حاولَ البشرُ إنكارَ ذلك والهروبَ منه.

 

5

قالت: ما أصعبَ أن تكوني أنثى في علاقة حقيقية واعتراف واعٍ مع أنوثتك، تتشاركين الوجود في مساحة واحدة مع ذكر لا يمكنه فهم الرجولة خارج منظومة الانتصاب، وحجم أداتها عنده.

انظري من حولك، أينَ ذاكَ الذي يستطيعُ فهم عمق تكوينه الإنساني في نفسه، وفي امرأة تمتلك شجاعة الاعتراف بضعفها كأحد مصادر قوتها الأصيلة؟!

ما أصعب أن نولدَ في ثقافة تنفي الأنوثة والرجولة معا لتختصرها بالشهوة الجسديّة والخضوع.

كيف نخوض غمار كل هذا التيه في البحث الأزلي عن الآخر المفقود ونحن لم نعثر بعد على ذواتنا. أو أننا لم نمتلك بعد وسائل الاعتراف بها، بل ننحو في بعض الأحيان أن نعتبر ذلكَ الاعتراف خطيئة وعيباً وذنباً.

في مُجتمع صُمِّمَ على نفي وجودنا واعتباره مرهونا بالجدران التي يجب أن يحتجب وراءها ويسلّم قياد نصفهِ الملغي لنصفهِ المشوه.

أي وحدة تلكَ التي تحياها النساء في توقهنَّ للتكامل والتواصل مع الآخر المساوي الذي وعيَ عمق المسألة وأدرك مقدار الخسارة حينما لا يمتلك- هو أيضاً- القدرة على التواصل مع الأنثى التي تُكوّنُ جزئهُ الأعمق الضروري في تشكيل وعيه لذكورته وانسجامه بهما معاً.

 

6

مُستحضرة ما تشعر به من غرابة الواقع الذي يُغلّف كينونتها الأصيلة تسترسل في الكتابة عما تشعره، تودّ بالكلماتِ لمسَ قاع الحقيقة، لا يهم أن تكون صعبة وغير مقرونةٍ بالوضوح؛ فهي تعرف أن الكتابة غوصٌ في الأعماق المجهولة من ذواتنا، وأنها ذاك الشرخ الذي يكسرُ حدّة العتمة، لطالما تتبعنا الظلال ودروبها العصيّة ونحنُ ننقرُ الأزرار كما لو أننا نخطو على أرض بكرٍ صلبة، صدى ضربات الحروف في الفراغ الذي يتلمسُ طريقه للوعي كانت تقرعُ أجراس ذاكرتها الغضة، تعود بها إلى ما لم يكن مفهومًا، الغريب في الأمر أنها كانت غير مُنسجمةٍ أو مُتقبلة لذاك الحيز الذي لم يكن مفهومًا لها آنذاك، أهي الفطرة السليمة لأنثى تعتز بما أُجبرت على نكرانهِ؟

تكتب: أنا تلك الأنثى التي لم يدرك أحدٌ من الذكور الذين مروا بها ماهيّة أنوثتها، والتي في بعض الخيبات تظن أنها لم تدركها هي أيضًا، في مُجتمعٍ يجعلُ من المرأة سلعةً، تتماهى النساء مع التسليع فهو المساحة الوحيدة التي تتاحُ لهنَّ لتكنَّ متواجدات في قلب الثقافة، لأنّهنَّ إن لم يفعلن رُفضنَ وعوقِبن، ففي صميم الامتهان المُجتمعي نمتهنُ أنفسنا كإناث ونغلقُ الحس الفطري الذي يستمر بقرع الأبواب ويطالبنا أن نرى، في معركة خاسرة مع العجز، أو الخوف، أو الاستكانة التي نقعُ فيها، الإناث اللاتي يكرسنَ الذكوريّة من دون وعي؛ فيطلقنَ الصفات المُطلقة وأمنياتهنَّ المُستحيلة في اعتماد نفسي على ذكر عليه أن يكون كاملًا كأسطورة، مضمونًا كحبّ الأم، ناقصًا كحاجة مُستمرة لهنَّ، يشفعُ له بها حاجتهنَّ  لعدم اكتمالهِ، ففي ذاك النقص سيتوفرُ الآمان الزائف بأنّه سيبقى أسير الدائرة المُغلقة المُرتبطة بالاحتياج الذي لن يمتلئ أبداً، الجنس في طغيانهِ المثقوب وتوقه للامتلاء بأنثى لن يتحقق لأنّه لن يتحقق كرجل.

تفكر بكل ذلك وتعيد القراءة، كانت تعرف أن الكلمات الأولى تكون الأصدق والأقرب للحقيقة دائماً في تعبيراتها الفجة ما قبل محاولة تهذيب وقولبة اللغة لتتماشى مع ما يُقبل، لذلك حرصت على الاحتفاظ بالمسودات كنسخة حقيقية من نفسها. تكتب كما لو أنها تعترف، وبتأنِ من يكتشفُ عالمًا فريدًا تخطو وئيدة كمن يمشي على زجاج مُتكسّر، لطالما كانت الحقائق جارحةً تترك النفوسَ مُدماة تمامًا كما تُدمى النساء في طقس الرجم حتى الموت إن تجرَّأنَ على اتباع هوى الروح في الحبّ والرغبة.

بقدرِ ما تشتكي النساء من الاضطهاد بقدر ما تمارسه بعضهن أحياناً كعادةٍ لا مُفكر فيها ضد بعضهنَّ وضد الذكور.

انتبهت أنها لا تستخدم كلمة رجل- رجال- كانت تستعيض عنها بكلمة توحي بتلك الوظيفة الجنسية المتمحورة حول القضيب- الذكر- الذكور- هل كانت تنتقم بتلك الطريقة من مُجتمع يحيا وراء العار المُغلق على الذنب في حجرات مُعتمة لا يستطيع فيها أن يرى حقيقته، وفيها يمارسُ طقوس حيوانيته الإنجابية خارج مُؤسسة الحبّ الإنساني؟

الحبّ هو عكس كل ذلك، لكن، كيف تصفهُ من دون أن يتبلل قلبها بالشغف، من دون أن يترقرقَ الدمعُ في مقلتيها، من دون أن تنحازَ للأنوثة الغارقة في أصلها في تجليات لا يمكن أن يفهم إرهاصاتها من لم يكن رجلًا؟

الرجل بمواصفات أخرى، أعمق من طبيعة جندريّة، وأكثر اتساعًا من دور حياتي يرتبط بالقوة البدنية.

كيف يمكن لمُجتمع ما زال مُقيدًا إلى احتياجه الفموي في علكِ علاقاتهِ كقطعة لحم نيئة، يبصق نساءه ورجاله إلى أتون البهيمة خارجَ الشوق الإنساني للاكتمال، بين روحين تلتقيان في التحام جسدي في رحلة التوق الوجودي للتوحد ذاك الذي لم يستطع أحد تفسيره… الحبّ.

 

 

*كل ما ذكر يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية