شبح مفاوضات جنيف يحوم في أروقة اللجنة الدستورية

*مالك الحافظ

كجندي معصوب العينين في حقل مليء بالألغام، تبدو مهمة أعضاء وفد المعارضة في اللجنة الدستورية السورية.

منذ أربعة أشهر كان الموعد المفترض للجولة الثالثة من ماراثون لجنة الدستور، غير أن معضلة الإغراق بالتفاصيل التي تتبناها دمشق منعت التئام الاجتماع؛ الذي غاب أيضاً بفعل لتصعيد العسكري في الآونة الأخيرة وتأثير تجاذبات الدول المنخرطة في الشأن السوري على إطار العمل السياسي. 

يسعى المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، غير بيدرسون، لعقد اجتماعات اللجنة من جديد في ظل تفشي جائحة “كورونا” عبر الوسائل الإلكترونية المتاحة، في تُوجه يقرأ بأنه محاولة في سبيل رأب المسار الدستوري، بظل التوصل إلى اتفاق حول جدول أعمال الاجتماعات الجديدة، بعد إصرار وفد النظام -في وقت سابق- على فرض ما أسماه حينها بـ ورقة المبادئ الوطنية.

تحديات

قد لا يصح القول أن توقف مسار اللجنة الدستورية -حالياً- سيزيد من تجميد الأوضاع السياسية في سوريا، المُعطلة أساساً بفعل عدة عوامل؛ تبرز إحداها عبر تبعية المسار السياسي للأعمال العسكرية التي باتت دائماً تتحكم بتوقيت العودة إلى المباحثات السياسية، حيث يبرز ضمن هذا السياق كآخر النماذج المتكررة، بروتوكول/اتفاق موسكو في الخامس من آذار الفائت بين كل من روسيا وتركيا؛ والذي رُسِم بمقتضاه حدود تهدئة جديدة تسمح “بانتعاشة مؤقتة” للمسار السياسي، إلى حين تصادم آخر بين القوى المنخرطة في الملف السوري.

لقد استطاعت روسيا فرض سيناريو عقد جولات اللجنة الدستورية كما هو الحال في جولات أستانا بعد كل تقدم عسكري، ليكون بالمحصلة التقدم العسكري والقضم التدريجي لمناطق المعارضة في مصلحة دمشق وموسكو، كورقة ضغط في أروقة المسار السياسي. 

بعد أكثر من عام على تعيين بيدرسون؛ يمكن الاعتبار أن الدبلوماسي النرويجي يتقاطع مع خلفه  السويدي (ستيفان دي ميستورا) في مشترك رئيسي وهو “السباحة في التفاصيل المُغِرقة”، فالأخير أغرق العملية السياسية في جولات جنيف “الصفرية”؛ مكتفياً بتقديمه لنهج “السلال الأربعة”، بينما تماهى بيدرسون مع تحالف الشراكة الروسية-التركية ضمن إطار “مسار أستانا”، وبدأ بشكل فعلي مسار “اللجنة الدستورية”، بجولتين خائبتين -إن جاز التعبير-.

لقد انغمس كل من دي ميستورا وبيدرسون في مستنقع التفاصيل الذي كشفت عنه دمشق منذ سنوات مضت؛ في سعيها لتمرير جولات العمل السياسي “المؤقتة” في وقت كانت تكسب فيه وحليفتها موسكو الكثير في الجغرافيا السورية؛ ما كان يعبر عنها دائما وبالأخص خلال الفترة القريبة الماضية؛ أن نهج الحل العسكري هو الغالب فقط لدى كل من بوتين والأسد. 

يسعى المبعوث الأممي لعقد جولة ثالثة لاجتماعات اللجنة الدستورية عبر الوسائل الالكترونية، غير أنه من الواجب الطلب منه بدلاً من ذلك، بأن يعمل على ضرورات يتطلب حصولها من أجل ضمان استقرار المسار السياسي دون عراقيل قادمة لا محالة منها فيما لو يتم التغلب عليها. 

لعل أهم التحديات والعراقيل هي تلك المتعلقة بضرورة فصل تجاذبات الميدان العسكري عن ديمومة أعمال اللجنة بجولات مكثفة ومُنتجة. فأي مسار دستوري يمكن أن يستمر طالما أن مخاطر التصعيد قائمة في كل من شمال وشمال شرق سوريا. 

وبدرجة أقل يتوجب على أجسام المعارضة المنضوية ضمن “هيئة التفاوض” حل المسائل العالقة فيما بينها بشكل يحترم الشعب السوري، وتوجيه البوصلة نحو الإنجاز والعمل من أجل الوطن، وذلك قد يتطلب بذل المزيد من الجهود للابتعاد عن ظل القوى والجهات الإقليمية.

ألغام ومطبّات

منذ الجولة الأولى للجنة الدستورية حرص النظام السوري على وضع العراقيل في مفاصل بناء عمل اللجنة، حيث أنهى وفد النظام؛ الجولة الأولى بوضع عراقيله التي تمثلت بطلبهم إدخال “سلة الإرهاب” ومناقشتها داخل إطار عمل اللجنة، بالإضافة إلى دفع شخصيات في وفد المجتمع المدني بطلب نقل اجتماعات اللجنة الدستورية من جنيف إلى دمشق. 

غير أن ذلك في حقيقة الأمر يعتبر طعناً في مشروعية اللجنة التي ترعاها الأمم المتحدة، كما أن نقلها إلى دمشق يعني أيضاً تمييع عمل اللجنة أكثر؛ من قبل النظام السوري. 

المبعوث الأممي كان قد علّق على هذا المقترح في الـ 10 من كانون الأول، بأن قرار نقل اللجنة الدستورية من جنيف إلى دمشق يجب أن يُتخذ من قبل السوريين كونه عملهم، ولا يُعتبر كلام بيدرسون بإمكانية نقل أعمال اللجنة إلى دمشق؛ بقدر ما أنه لا يريد الخروج عن دور المُيّسر لأعمال اللجنة، تاركاً مصير البت في هذا الأمر إلى أعضاء اللجنة أنفسهم، ما قد يدفع للترجيح أن النظام السوري سيبقى مراهناً على مربع  المماطلة والتعطيل.

بينما كان المطبّ الأكبر الذي وضعه النظام أمام مسار اللجنة عبر رئيسه (بشار الأسد)، الذي قال خلال لقاء تلفزيوني في 31 تشرين الأول، أن الوفد الذي وصل إلى جنيف من دمشق؛ يُمثّل فقط وجهة نظر “الدولة” وأنه مدعوم فقط من قبل حكومة دمشق، وإنما عملياً فهو لا يمثلها. ما يُشكّل تحايلاً معتاداً من قبل دمشق لا طائل منه سوى المماطلة وإضاعة أكثر قدر ممكن من الوقت، وهذا ما ينطبق عملياً على ما تحدث به   الخارجية وليد المعلم بخصوص الإغراق بالتفاصيل، فالمفاوضات دائماً ما كانتدمشق تدّعي المطالبة بها وتحرص عليها، ولكنما تبعاً للقاعدة التي أرساها المعلم حين قال نهاية عام 2011 “تعالوا لنتفاوض وسنغرقكم بالتفاصيل”. 

الأسد اعتبر -حينها- أن حكومته ليست جزءا من اتفاق اللجنة الدستورية، مُدّعياً أن هناك طرفًا يمثل “وجهة نظر الحكومة السورية، أما الحكومة السورية فهي ليست جزءا من هذه المفاوضات ولا من هذا النقاش”. 

ولا يعني ذلك، من وجهة نظر الأسد، أن الحكومة تُفاوض، فهي من الناحية القانونية غير موجودة في اللجنة الدستورية، ولا يعني اعتراف الحكومة بأي طرف، بخاصة وأنه اعتبر وفد المعارضة “وفداً عميلاً”. 

ويخالف الأسد ما أعلنه “مؤتمر الحوار الوطني السوري” في كانون الثاني 2018 بمدينة سوتشي الروسية، حيث جاء في البيان الختامي -آنذاك- أنه “تم الاتفاق على تأليف لجنة دستورية تتشكل من وفد حكومة الجمهورية العربية السورية ووفد معارض واسع التمثيل، بغرض صياغة إصلاح دستوري يسهم في التسوية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة وفقًا لقرار مجلس الأمن رقم 2254”.

الاستمرار في الفشل؟  

في الجولة الثانية من اجتماعات الهيئة المصغرة في اللجنة الدستورية، قدّم وفد النظام السوري ما سمّاها “ثوابت وطنية”، يجب أن يُقرّها وفد المعارضة والمجتمع المدني قبل الدخول في مناقشة الدستور، وشملت “رفض العدوان التركي، التمسك بوحدة الأراضي السورية والسيادة، ورفض المشاريع الانفصالية، رفض الإرهاب”، والذي رفضها من جانبه وفد المعارضة، وأكّد أن مناقشة هذه الثوابت يجب أن تكون ضمن السياق الدستوري، لا ضمن السياق السياسي. وهنا أيضاً يتأكد لنا دليل إضافي على أن عدم فصل الميدان العسكري والتجاذبات السياسية بين المتدخلين في الملف السوري؛ عن مسار اللجنة الدستورية، لن يكفل نجاحه أو المحافظة على استمراريته. 

كذلك كان وفد النظام قد سعى لطرحٍ آخر معرقل، بأن اقترح على المبعوث الأممي إنهاء حضور وفد قائمة المجتمع المدني من اللجنة الدستورية، على اعتبار أن هذا الوفد ينقسم بين موالاة ومعارضة، ما يسمح بدمج أعضائه في الوفدين الآخرين النظام والمعارضة. 

ولو أن هذا الطرح لن ينجح في مسعاه، حيث يتطلب تصويتاً داخل اللجنة ويحتاج إلى موافقة 75 في المئة من الأعضاء، إلا أنه سيكون ذو تبعات سلبية خلال الفترة المقبلة وسيسعى وفد لنظام إلى تصعيده خلال الجولات المقبلة، لا لطرحه على التصويت وإنما لعرقلة عقد مباحثات مثمرة تمضي بمسار اللجنة الدستورية في مدة زمنية مناسبة تسبق فترة الانتخابات الرئاسية المقبلة في سوريا.    

وفد المعارضة وإن كان قد أبدى بعض من المناورة رداً على العوائق التي يختلقها وفد النظام، فإن مناورته التي تجلت عبر الطلب من المبعوث الأممي إلى سوريا، استئناف المفاوضات حول “السلل الأربعة” المتفق عليها في القرار الأممي 2254، بخاصة تشكيل هيئة الحكم الانتقالي، بالتوازي مع عمل اللجنة الدستورية.

وهنا ينبغي التساؤل حول ما إذا كانت هذه الخطوة تملك أدوات قوية لتفعيل طلب الهيئة التفاوضية، بخاصة وأنها جاءت في وقت متأخ، فهل بعد القبول بلجنة دستورية وانتهاء أولى الجولات دون نتائج ملموسة تسنّى للمعارضة المطالبة بتفعيل بنود القرار الأممي المتعلقة بالسلل الأربعة دون تعجيل سلة عن أخرى بحسب الأهواء الروسية. 

إن ما صدر عن وفد النظام في الجولة الثانية دللّ على نية دمشق لتعطيل أعمال اللجنة الدستورية، وعدم رغبته البحث في كتابة دستور جديد، ورغم أن ذلك كانت تتوقعه المعارضة؛ إلاّ أن المطبات التي وضعتها دمشق تشير إلى أحد أمرين، إما أن روسيا تخطط لهذه العراقيل وتدفع دمشق إليها لمراوحة الوضع الحالي على ما هو عليه حتى إجراء الانتخابات الرئاسية في سوريا عام 2021، أو أن الضغط الروسي على مراوغات النظام يحتاج ومن أجل أن يكون ملموساً إلى تفعيل ضغط دولي حقيقي على موسكو.

جدول زمني مفتوح يخالف القرار الأممي

في الـ 23 من تشرين الثاني الفائت دعا بيدرسون إلى عدم تحديد إطار زمني لعمل اللجنة الدستورية، مشيراً إلى أن ذلك سيستغرق “بعض الوقت لتطوير المناقشات في اللجنة الدستورية حول القضايا الأساسية مثل العقد الاجتماعي لمستقبل السوريين”، نافياً أن يكونلديه “إطار زمني لعمل اللجنة الدستورية، وقال “ما اتفقنا عليه هو أننعمل بجدية وأن نحرز تقدماً”. ويتوافق هذا التصريح مع مساعي النظام في إبطاء تقدم مسار اللجنة، متجاوزاً بذلك القرار الأممي 2254 الذي كان أسس للجنة الدستورية وحدد جدولاً زمنياً لآليات العملية السياسية في سوريا، بمدى زمني لا يتجاوز الـ 18 شهر عند بدء أولى خطوات تنفيذ القرار. 

استغرق الإعلان عن تشكيل اللجنة الدستورية بشكل رسمي قرابة 4 سنوات، وهي التي ذُكرت في القرار الأممي آنف الذكر، والصادر في كانون الأول 2015، وكانت الإشارة إليها أيضاً في الجولة الرابعة من محادثات جنيف التي عقدت في آذار 2017. 

ولا يبدو وفق المعطيات الحالية والمناورات المستمرة من قبل دمشق أن مصير اللجنة الدستورية قد يختلف عن مسار مفاوضات جنيف، فتلك المفاوضات التي عُقدت عملياً بين عامي 2014 و 2017 وأسس لها مؤتمر جنيف1 في حزيران 2012، و لم تُفضي إلى أي نتيجة يُبنى عليها في العملية السياسية سوى إقرار “السلال الأربع” التي لم تحقق نتائج عملية مثمرة، كان موقف النظام واضحاً فيها وقد عبّر عنه في تصريحات تنم عن أن الحل العسكري الذي ما زال النظام ينتهجه ولن يتخلى عنه، حيث أشار وزير المصالحة الوطنية السوري السابق علي حيدر، مطلع عام 2014، أن مباحثات جنيف “لن تحل الأزمة” في بلاده.

وقال -آنذاك-: “لا تنتظروا من جنيف-2 شيئاً، لن يحل الأزمة السورية، ولا جنيف-3 ولا جنيف-10”.

رغم كل المتغيّرات التي طرأت على المشهد السوري، إلا أنها في النهاية صبّت بشكل أو بآخر لمصلحة دمشق بدعم من موسكو التي باتت تُسيّر مسارات أستانا واللجنة الدستورية مؤخراً، ولنرى أن كل ما طرحته دمشق خلال مفاوضات جنيف حال دون حسم القضايا المطروحة للتفاوض -آنذاك-، ويؤكد أن رؤيتها لحسم “الأزمة” بعيداً عن الحل السياسي التفاوضي ما تزال قائمة.

*المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة