شعار بدنا نعيش، ما له وما عليه

*لينا وفائي عضوة الحركة السياسية النسوية السورية 

منذ أيام انطلقت احتجاجات مطلبية في السويداء تحت شعار “بدنا نعيش”، تحتج على موجة الغلاء الغير مسبوقة، والتي اجتاحت سوريا في الآونة الأخيرة نتيجة لانخفاض قيمة الليرة السورية.

سرعان ما أظهرت وسائل التواصل الاجتماعي تبايناً في مواقف السوريات والسوريين -كعادتهم منذ تحول ثورتهم التي انطلقت في عام ٢٠١١ ثورة الحرية والكرامة إلى حربٍ طاحنة- وخصوصاً بين صفوف معارضي النظام، فظهرت أصوات تدين المحتجات والمحتجين وتسألهم لماذا صمتوا عندما ثرنا؟!، وأصوات أخرى تمجد ما يحصل، وتبني عليه الكثير من الآمال، وكان هناك ما بينهما؛ من ينظر لهذه الاحتجاجات بإيجابية، ولكن بحذر في الوقت ذاته.

في عام ٢٠١٤ طرحت الأمم المتحدة حملة ضمن مبادرة نساء سوريا للسلام والديمقراطية تحمل شعار “بدنا نعيش” كدعوة لوقف الحرب، لم ينل الشعار وقتها الرضى المطلوب، جميعنا أو يمكننا القول أغلبنا، وقف حينها ضد الشعار وبقوة، لأن هذا الشعار في ظل الظرف السياسي وقتها أعادنا لما كان يعنيه قبل ثورة ٢٠١١، والذي كان يعني أننا نقبل بكل الظلم الحاصل مقابل حق الحياة فقط، رأينا في الشعار في ذاك الوقت قبولاً بنظام الأسد الذي كان يترنح، رأينا فيه خيانة لثورتنا واستسلاماً لنظام استبدادي قمعي.

في عام 2020 وفي السويداء في الداخل السوري، عاد الشعار للظهور، أطلقته هذه المرة شابات وشباب صغار، كانوا أطفالاً عندما انطلقت ثورة ٢٠١١، شابات وشباب لا نعرف تحديداً، نحن البعيدات/ين عن موقع الحدث، موقفهن/م السياسي الحقيقي، هل هن/م مواليات/ون أم معارضات/ون، أم ببساطة ما يطلق عليهن/م رماديات/ون، أولئك اللواتي/الذين لم يصرحن/وا عن موقف مما حدث خلال تسع سنوات. فهل ما زال الشعار يحمل الآن وفي هذه الحالة العيانية ذات المعنى الذي كان له عام ٢٠١٤؟

لن نستطيع الإجابة عن السؤال السابق إلا بعد وصف الحالة الراهنة للوضع السوري، فقد تحولت الثورة التي تعسكرت وتأسلمت إلى حرب دولية وإقليمية ومحلية، وأعاد النظام سيطرته على أغلب المناطق التي كانت خارجها، وهو يشن حرباً الآن على المنطقة الأخيرة التي تقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة في إدلب وريفها وريف حلب الغربي لاستعادتها. الشعب السوري اليوم بين نازحة/نازح ومهجرة/مهجر ولاجئة/لاجئ، وأغلبه تحت خط الفقر سواءً كان تحت سيطرة النظام أو في المناطق الخارجة عن سيطرته، انهيار الليرة يزداد يوماً بعد آخر، ولا حل سياسياً في الأفق، فما زال النظام يرفض كل الحلول التي لا تضمن إعادة سيطرته وهيمنته إلى ما كانت عليه قبل انطلاق الثورة.

كان شعار الثورة المصرية في كانون الثاني ٢٠١١، والتي كانت من الثورات الأولى في الربيع العربي، كان شعارها “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”، وعيش باللهجة المصرية هو الخبز، إذاً كان أول شعار لها ضد الجوع، ولطالما انطلقت ثورات عبر التاريخ بسبب الجوع، ومنها كانت الثورة الفرنسية الكبرى، ولن ننسى قطعاً تعليق ماري انطوانيت عندما طالب الشعب بالخبز، فنصحته بتناول الكيك، والذي يُذكر الآن  بتصريحات بثينة شعبان عن تحسن الاقتصاد السوري بخمسين ضعف عما كان عليه قبل 2011، بينما الشعب السوري يعاني من نقص في الغاز والكهرباء والماء، كما يعاني من الغلاء. إذاً لا يمكن أبداً أن نقول إن احتجاجات الجوع هي احتجاجات الخانعات/ين، كما اتهمها العديد من المعارضات/ين الأشاوس، فلطالما كان الجوع هو المحرك الأساسي لثورات الشعوب، التي نقلت البلدان من أنظمة اقتصادية إلى أخرى.

تعتبر الاحتجاجات المطلبية دوماً، أحد أشكال الاحتجاج السياسي، وأي استجابة لها ستحمل في طياتها تغييراً للنظام السياسي القائم، ولو بشكل بسيط، ولكن هذا لا يعني قطعاً أن هذه الاحتجاجات ستسقط الأنظمة ببساطة، فهي قد تخبو حال استجابة بسيطة لها من قبل النظام القائم أو ربما فقط بوعود للاستجابة، وربما أيضاً بسبب عدم الجدوى واليأس من تحقيق المطلوب، لكن هل يعني هذا أن هذه الاحتجاجات خانعة بطبيعتها؟

بدراسة الثورات عبر التاريخ نلاحظ أن الكثير منها كانت على شكل موجات، إلا التي تسلحت منها، وفي العصر الحديث على سبيل المثال نرى الثورة الإيرانية التي تشتد وتخبو في موجات متعاقبة منذ عام ٢٠٠٩ حتى الآن خير مثال على هذه الثورات، هذا يعني أنه من الطفولة السياسية أن ننتظر من كل احتجاج أن يقوم بإسقاط النظام وتغيير بنيته.

إن أي احتجاجات كانت، وخصوصاً في ظل نظام سياسي قمعي استبدادي شمولي، هي احتجاجات ثورية، لأنها تعرف أنها قد تُواجه بكل العنف الذي يحمله هذا النظام، وهي على استعداد لتحمل هذه النتائج أو على الأقل لِنَقُل إنها انطلقت من دون التفكير بالنتائج.

من كل ما سبق نستطيع القول إننا لا نعول على احتجاجات السويداء، ولن نتوقع منها إسقاط النظام أو حتى إطلاق هذا الشعار، أي شعار إسقاط النظام، ولكنها في ظل كل ما يمر به الشعب السوري حالياً هي احتجاجات ثورية ذات أهداف وشعارات مطلبية، وذلك لا ينقص من قيمتها.

في الثمانينيات من القرن الماضي، وبعد أحداث حماة، وقدرة النظام السوري على إنهاء التواجد المسلح للإخوان المسلمين، فرض النظام سيطرة وهيمنة سياسية وعسكرية على الشعب السوري، وحول سوريا إلى حظيرة ومزرعة له، يتحكم بها وبشعبها تحكماً كلياً، وأصبحت سوريا عنده هي سوريا الأسد، ووزع شهادات الوطنية حسب الولاء له، وقام بقمع أي فعل سياسي معارض، فزج بمعارضيه جميعاً، اليمين منهم واليسار، في السجون لسنوات طويلة، إما بدون محاكمات أو بمحاكمات شكلية.

إن لهذه الاحتجاجات الآن دلالات مهمة سياسياً، فهي تؤكد أن النظام السوري لن يستطيع أن يعيد سوريا إلى ما كانت عليه قبل انطلاق الثورة، ولن يتكرر ما حصل في الثمانينيات من القرن الماضي، فسوريا لم تعد حظيرته ولن تعود، حتى لو استعاد السيطرة العسكرية عليها، وها هي الاحتجاجات تنفجر في مناطق كانت إلى حد قريب غير معنية بكل ما حصل في السنين الماضية، إلا بمنطق النأي بالنفس وحماية الذات.

قد تنتهي هذه الاحتجاجات قريباً أو قد تتطور، ولكن بغض النظر عن مآلها فهي شكلت نقطة مهمة في التاريخ السوري، أكدت فيها للجميع وأولهم لنظام الأسد، أن سوريا لن تعود إلى الحظيرة، وأن هذا النظام لابد أن يتغير بنيوياً، وإن لم نستطع إسقاطه، وأن شعارات الثورة السورية التي أطلقتها حناجر المتظاهرين لا بد أن تتحقق يوماً.

 *المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة