أصوات نسوية، مقابلة مع فاديا أبوزيد

أصوات نسوية، قراءة في الحراك النسوي السوري

مقابلة مع الصحفية والناشطة النسوية فاديا أبو زيد

حاورتها رجا سليم

فاديا أبو زيد، سورية من محافظة السويداء، خريجة أدب إنكليزي. عملت في الصحافة السورية ككاتبة مستقلة، ثم عينت محررة في القسم الثقافي لجريدة “الوطن” لقرابة ثلاث سنوات ونصف. وبعد اندلاع الأحداث في سوريا، حجزت جريدة “الوطن” على رصيد فاديا الصحفي وكل ما كتبته فيها على مدى عدة سنوات، والذي كان بمعدل ثلاثة مواضيع أسبوعياً. كتبت فاديا لـ “الوطن” الكثير من المقالات والأبحاث التي تخص واقع المرأة السورية، في الصفحة الأسبوعية الخاصة بالمرأة والطفل.

مرحباً بك فاديا،

١- متى بدأ اهتمامك بالعمل النسوي\السياسي\الاجتماعي، وكيف؟

لم أنتسب إلى أي حزب في سوريا، لكنني عشت في بيئة، معظم من حولي كانوا من الشيوعيين واليساريين والعلمانيين، فكانت مرحلة الوعي مبكرة حيث الأسرة الداعمة والمحيط الواعي المثقف والمشجع، وهذه حالة لم تكن غريبة أو استثنائية في محيطي الذي نشأت فيه. وبالطبع كانت قضية القهر والتضييق والحقوق المدنية، قضية حاضرة في كل تفاصيل ومراحل حياتي، كما كل السوريات والسوريين. لكن الأمور تبلورت في الجامعة حيث الفضاء أرحب، والمعاناة كبنات وأبناء ريف من طبقة متوسطة، لها طبيعتها الخاصة. ورغم القمع والحالة الأمنية وانعدام فرص التعبير عن أنفسنا، كنا دائماً نعثر على أناس يشبهوننا ويشاركوننا آراءنا وهواجسنا ومعاناتنا. كنا نرتاد منتديات خاصة، ومحاضرات تقام في بيوت نشطاء، وتمرر إلينا المنشورات السياسية بطرق متعددة، أيضاً تمرر لنا الكتب الممنوعة والمقالات المهمة. وبشكل أو بآخر كان موضوع المرأة حاضراً كجزء من كلّ، أو ككلًّ مستقل. لكن ذلك ليس من دون التجارب الشخصية التي تصطدم فيها أي امرأة في كل تفصيل ومرحلة من مراحل حياتها، بداية من الأسرة، المدرسة، الجامعة، العمل، الحياة الزوجية، الأطفال، الطلاق، وغيرها من التجارب التي تكسبها وعيها الخاص. إلى آخر يوم من حياتها تبقى المرأة في صراع مع واقعها الاستثنائي الصعب، في بلدان كبلدنا.

٢- في كتاباتك الصحفية غالباً ما تركزين على أسباب اضطهاد النساء، مثل غياب القوانين وأيضاً مساهمة الممارسات الدينية في تحجيم أدوارهن، كيف تصفين الخوض في هذه المواضيع في مجتمعات تعرف بتحفظها؟

هذا ليس سهلاً. لكن قناعتي بأن هذه المواضيع مهمة من أجل النهوض بواقعنا، كسر عندي حاجز الخوف والرهبة من تناول التابوهات (المحرّمات) التي تتحصن بها المجتمعات وتكرسها الأنظمة القمعية، كالدين والجنس والسياسة. نصبح أقوى حين نعمل من أجل الصالح العام، والقضايا العامة. ليس لدينا مشكلة مع ممارسة العقائد، فهذا حق كفلته كل الشرائع الدولية. لكن أنتقد فرض التشريعات الدينية على المجتمع بقوة الدستور والقانون. كما في إحالة مؤسسة الأسرة للتشريعات الدينية الخاصة بكل دين وطائفة. وهي في الأساس قوانين وضعية تعود لزمانها. هذا سَجَنَ المجتمع السوري كله، وقسمه ضمن أديان وطوائف. هذه التشريعات/القوانين تقف حجر عثرة أمام أي تقدم في قوانين حقوق الإنسان، بشكل عام، وحقوق المرأة بشكل خاص، أسوة بالبلدان المتقدمة. حيث يَحكم الناس إرادتهم الفردية في اختيار شريك الحياة، ولا تحكمه الطائفة أو الدين على سبيل المثال. هذا انتقاص من كرامة الأفراد ومعاملتهم كأنهم ناقصوا أهلية. القوانين المدنية هي من وحي التراث الاجتماعي والتشريعات الدينية. وما القوانين المتعلقة بما يسمى جرائم “الشرف”، سوى دعم للحالة الحقوقية المتردية للمرأة في القوانين السورية. فمن تتجرأ وتخرج عن التشريعات الدينية أو الطائفية في الزواج، يحق لذكور العائلة قتلها! من جهة أخرى: ليس لدينا قانون زواج مدني. وأي عقد زواج يجب أن يستوفي شروط القبول من المؤسسة الدينية والمدنية، وليس للمواطن/ة أي إرادة في اختيار شريك/ة الحياة. هناك قمع للإرادة الفردية وهذه إهانة إنسانية لكيان الفرد السوري في أبسط حق من حقوق الحياة. أما إذا أراد المواطن/ة السوري أن يتزوج ضمن القوانين المدنية المطروحة فهناك العديد من العقبات. فحسب الدستور هناك عُلوية للدين الإسلامي على بقية الأديان والطوائف الموجودة في سوريا، ولهذا الموضوع عواقب ومآلات تبدأ بالإكراه على تغيير الدين، وتستجر تفاصيل قانونية وعراقيل تمنع التفكير بهذا الموضوع من أساسه. نحن أمام كوارث في مفاهيم المواطنة. وانطلاقاً من هذا الواقع، لا يمكننا الحلم بأي تغيير إيجابي إلا إذا جاهرنا وطالبنا وناضلنا من أجل التخلص من هذه الحالة غير الإنسانية أولاً، والقاهرة ثانياً، والمتردية قانونياً التي يدعمها دستور البلاد في المادة الثالثة منه، ومن ثم قوانين الأحوال الشخصية، وقوانين الأسرة الخاصة بالدروز والمسيحية من التي أقر بها الدستور السوري. في كل التشريعات الدينية السورية: المرأة مواطن درجة ثانية، خاضعة لقوانين تراثية تستبد بها، وقوانين مدنية لا تمنحها أية حماية في بيت الزوجية وفي الحياة عموماً. لذلك يجب تسليط الضوء عليها.

٣-لو وضعنا القوانين جانباً، ما مدى تأثير الأعراف الاجتماعية على حصول المرأة على حريتها وحقوقها ومساواتها بالرجل؟ وما هي إمكانية التغيير من هذه الناحية؟

لم يتسنَّ للمجتمع السوري أن يعيش الدولة. ما مارسته الحكومات السابقة على مدى سبعة عقود لم يكن إلا تكريساً للعائلية والعشائرية، التي تحتكم للأعراف والعادات والتقاليد التي لا تعترف بدور المرأة في الحياة إلا كزوجة وأم، وسلطة الرجل كاملة عليها. هي في الأسرة ليست أكثر من منجبة ومربية للأولاد. وما كرسته القوانين ليس أكثر من تثبيت الأعراف كناظم لقوانين الأسرة. ويتضح ذلك جلياً في قضايا الميراث، على سبيل المثال، ومع أن القوانين تعطي المرأة الحق في الإرث إلا أن الأعراف والتقاليد تدفع المرأة للتنازل عن حصتها لإخوتها الذكور.
يظهر جلياً أيضاً في حالات الطلاق الذي يمارس أقسى أنواع القهر على المرأة. وبالرغم من حق المرأة في القانون بحضانة أطفالها، إلا أن الأعراف الاجتماعية ترفض في معظم الأحيان رعاية أولاد “المطلقة”، لأنهم حسب العرف، هم للرجل وليسوا للمرأة! من هنا وحسب الأعراف المغرقة في الذكورية، لا يمكن للمجتمع أن يدعم المساواة بين الرجل والمرأة. القوانين هي من تكفل تحجيم دور الأعراف في حياتنا.

٤- كيف تقيمين التمثيل السياسي للنساء السوريات في الأجسام السياسية التي تشكلت بعد الثورة؟ لماذا؟

التمثيل السياسي للمرأة السورية في الأجسام السياسية هو صورة طبق الأصل عن واقع الأجسام السياسية التي شكلتها الثورة. هو واقع سيء. مازلنا تحت وطأة الذكورية السياسية الفجة التي لا تحترم المرأة في الحياة، ولا في السياسة. وهي استمرار لما ورثناه عن النظام من تسلط وانعدام ديمقراطية وشفافية. وكل التشكيلات الحالية لا تمثل حلمي وحلم أمثالي في التغيير. هناك هيمنة دولية على هذه المؤسسات. والجميع أسرى للواقع السياسي الذي وصلنا إليه. ومع ذلك هناك إصرار مبشر من النساء على التواجد، رغم معرفتهن ووعيهن بواقع هذا الحال السوري الصعب.

٥- كصحفية وناشطة في العمل النسوي، برأيك ما مدى اقتراب الحراك النسوي السوري من هموم المرأة السورية عموماً؟

بالنسبة لي العمل النسوي هو في جزئه الأهم؛ ما يُنتج تنمية مستدامة تؤدي إلى المساواة مع الرجل، والذي أراه ممكناً عبر العمل السياسي الذي يستهدف حزمة المواد والقوانين التمييزية المنصوص عليها في الدستور، ويستهدف أيضاً القوانين المدنية التي من شأنها أن تحمي وتعزز الهيمنة الذكورية على النساء، وتضطهد المرأة وتحجم دورها الاجتماعي. أيضاً الذي يقدم مشروع قوانين حمائية للمرأة من جميع أشكال العنف المجتمعي والأسري، ويطرح قوانين داعمة للمرأة، بما يتناسب مع تغير دورها الاجتماعي الذي كان محصوراً في الإنجاب ورعاية الاسرة، لكنه تغير اليوم. كل ما يقدم للنساء من دعم نفسي أو دعم مادي، على سبيل المثال، لا يستطيع إنقاذ امرأة تقف عاجزة أمام تعدد الزوجات، أو الطلاق الشفهي، أو جريمة “الشرف” أو عدم أحقيتها بحضانة أطفالها، وغيرها من قوانين الأسرة، التي تعطي للرجل حق الوصاية الكاملة على حياة ومصير المرأة. لذلك أعتقد أن العمل النسوي مازال بعيداً عن الاقتراب من المعضلات الحقيقية التي تواجه المرأة السورية.

٦-هل تعتبرين أن وسائل الإعلام السوري “البديل” إن صح التعبير، تفرد مساحة كافية للنساء لطرح وجهات نظرهن وتطلعاتهن بكافة القضايا؟ كيف؟

إعلام الثورة البديل هو ليس بإعلام مستقل، والمكتوب منه، لا يقدم بمعظمه مساحة حرة لطرح الآراء المختلفة، ويخضع للعديد من المحددات للنشر ضمن أجندته الخاصة بجهة التمويل. ومع ذلك هناك أصوات نسائية تزداد حضوراً وتنوعا في هذا الإعلام. وتعتبر اليوم وسائل التواصل الاجتماعي، و”الفيسبوك” خصوصاً وسيلة مهمة لتواجد الأصوات النسائية. أما بالنسبة للإعلام المرئي، فالواقع كارثي في زمن ثورة. فليس لدينا سوى فضائية واحدة، وبالكاد نرى امرأة سياسية أو نسوية أو ناشطة تتم استضافتها للتحدث في المواضيع التي تهم المرأة وقضايا المرأة على مدار سنة أو أكثر. ربما لا يعتبرون قضايا النساء مهمة، أو يعتبرونها ثانوية. أحد مآزق الحراك السوري، أنه لم يقدم فضائية سورية وطنية مستقلة تتيح للأصوات السورية وقوى المعارضة المستقلة والحراك النسوي الظهور أمام المجتمع السوري.

٧- برأيك ماذا ينقص العمل النسوي السوري اليوم، وما هي المبادرات التي يمكن أن تقوم بها التجمعات والأجسام النسوية لتطويره، ولم تعمل عليها حتى اللحظة؟

ما ينقص التجمعات والاجسام النسوية السورية اليوم:

  • الإيمان بالعمل النسوي كجزء من حركة التحرر من الاستبداد، وتقديم الرؤى في بناء المواطنة. فلا يمكن فصل قضايا المرأة عن قضايا الوطن. هذا الربط مازال هشاً في أدبيات العمل الفكري النسوي، لكن يُطرح عن طريق نسويات مستقلات لا يشكلن قوة واضحة أو ضاغطة. القضايا الإشكالية، وأهمها القضايا الحقوقية المرتبطة بالدين كالعلمانية مثلاً، تُطرح بشكل خجول أو موارب، وهذه الحالة صنعت خلطاً بين النشاط النسائي والنشاط النسوي، حيث الفارق بينهما أن النشاط النسائي يشتغل على /الآن/ بينما النسوي يشتغل على /المستقبل/، والعمل النسائي جزءاً من العمل النسوي. العمل النسائي يعمل على دعم المتضررات من الحرب أو من القضايا الأسرية كالعنف، مثلاً، بإيجاد تجمعات تقدم الدعم النفسي أو اللوجيستي البسيط للمرأة المتضررة، وهذا مهم ومفيد ونحتاجه، لكنه لا يصنع فارق حقيقي في واقع المرأة. أما العمل النسوي فيعمل على إزالة أساس العنف في المجتمع والدولة، باستهدافه المنظومة القانونية التي تكرس العنف وتحكم المواطنات/ين السوريات/ين. وهذا عمل بحاجة لبناء قاعدة فكرية تخصنا كنسويات سوريات، تتقاطع مع العمل النسوي والتنظيمات والتشكيلات النسوية في العالم العربي، والتي نتشارك معها واقعاً متشابهاً؛ كمجتمعات عربية متدينة، وكسلطات حكم سياسية مختلطة تمنح سلطة للدين في دساتيرها، وفي قوانين الأسرة! ففي الوقت الذي يَعتَبِر فيه الدستور أن المرأة مواطنة مساوية للرجل، تأت قوانين الأحوال الشخصية وقوانين الأسرة لتعتبر المرأة “فاقدة للأهلية” وبحاجة إلى ولاية الرجل، على سبيل المثال!
  • أيضا بحاجة لبناء نواة عمل مشتركة لنشاط فكري يضع التعريفات المهمة لمصطلحات تقوم عليها النسوية، من التي تصنع الهوية النسوية السورية: كتعريف العنف، الأسرة، الزواج، العنف الأسري، النسوية، اغتصاب الزوجات، التمييز السلبي، إلخ. لماذا هذه التعريفات مهمة؟ لأنه لاحقاً في المستقبل عند أي انتقال سياسي، يكون هذا التعريف هو المعيار والبوصلة التي سأقيس عليها أي مادة تطرح في الدستور أو القوانين؛ إن كانت المادة أو القانون ضد هذا التعريف يمكننا التحشيد والوقوف ضد هذه المادة أو القانون لإزالتها أو تعديلها.
  • بحاجة لبناء قاعدة بيانات تجمع كل الأبحاث والمقالات التي تقدمها الناشطات والنشطاء والمهتمات/ون بقضايا حقوق المرأة، لتكون أرشيف وتوثيق ومرجعية عامة.
  • لا يوجد تشبيك بين التشكيلات النسوية التي تساعد في بناء مشاريع مشتركة وتبادل والخبرات من أجل التقدم بالعمل النسوي، أو من أجل التحشيد للقضايا الوطنية والنسوية المشتركة في الفضاء العام. هناك قضايا يجب أن تصبح قضية رأي عام لا يستطيع تشكيل أو تجمع واحد أن يقدمها إلى دائرة الضوء، في هذه الحالة يلزمنا التعاون بين كل هذه التجمعات.
    أيضا لدى كل هذه التجمعات مشاكلها الخاصة التنظيمية التي تعاني منها على كل المستويات، مثلها مثل التشكيلات السياسية والمدنية الأخرى، وهذا مازال لا يطرح بشكل شفاف وجدي إلى اليوم، كي يتم تجاوز الخلل والتطور في الأداء. هذا الحراك يلزمه الكثير من حرية الرأي والمواجهة الشجاعة التي تأخذ المصلحة العامة هدفاً أسمى.
    في النهاية، لن ننجز قضايانا المصيرية إلا بوجود حركة نسوية سورية وطنية مستقلة عن كل الأجندات التي تمولها الدول والجهات الأجنبية، لأن تلك الاجندات تفرض شروطها الخاصة وليس ما نحتاجه كنساء سوريات. أيضا لا يمكن التقدم إلا بتبني نظم إدارية متقدمة ثورية تؤسس للديموقراطية وحرية الرأي والشفافية وتداول السلطة. أي تجمع أو تشكيل هو صورة مصغرة عن البلد الذي سنصنعه في المستقبل. بشكل أو بآخر علينا أن نتخلص من أدوات النظام الذي نثور ضده في إدارة تجمعاتنا المدنية والسياسية.

*كل ما ذكر في المقابلة يعبر عن رأي من أجريت معهن/م المقابلة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة