عام بعد الكارثة الزلزالية

 

*ملك توما

 

على أعتاب الذكرى الأولى لزلزال القرن في تركيا وسوريا، الذي أرخى بظلال من الحزن خيم على المنطقة لفترة طويلة، ونعتقد أنه سيخيم سنوات أخرى. ففي ليلة السادس من شباط عشرات الآلاف من الضحايا كانوا على موعد مع غضب الطبيعة، التي لم تكتفِ في موت الآلاف بل وشردت آلاف أخريات/ين، ماعدا الخسائر التي تقدر بملايين الدولارات.

لكن الزلزال في سوريا كان مجموعة من الزلازل في بلد يعيش كارثة إنسانية سببها نظام الأسد، الذي قرر أن يعدم أي فرصة للحياة على هذه الأرض، لذلك فلقد عبرت هذه التفاصيل المؤلمة كل الحدود لكي تقوم بالاستعداد للاستجابة الإنسانية مع استمرار الأزمات السياسية في الوقت ذاته. يضيف الزلزال ملفاً آخراً من الأزمات السياسية، فالشؤون الإنسانية في أعلى مستويات الخطر والضحايا العالقين/ات تحت الأنقاض والأبنية المهدمة في كل مكان.

 

الأسد يقتل السوريات والسوريين باستغلال مقيت للكارثة

لقطات ساخنة تنطلق من استجابات عاجلة لا تحمل بعداً سياسياً، ففي غضون أيام قليلة، بدأت المساعدات بالتدفق إلى دمشق فورًا، فأرسلت الجزائر ومصر وإيران والعراق وروسيا والإمارات العربية المتحدة معونات في اليوم الذي أعقب الزلزال. وبحلول 9 شباط، وصلت طائرات محمّلة بآلاف الأطنان من المساعدات، وبدأت فرق الإغاثة بدعم جهود النظام في المناطق المتضرّرة. وعلى الفور، دعت سوريا إلى تخفيف العقوبات، وردّدت هذه الدعوة دول عربية ووكالات الأمم المتحدة خلف الأبواب المغلقة. وفي 9 شباط، سمحت واشنطن، التي كانت فرضت عقوبات على سوريا، بإجراء العمليات المتعلّقة بالإغاثة لمدة ستة أشهر. عندئذٍ، طلب النظام مساعدات إنسانية من الاتحاد الأوروبي، الذي استجاب لهذا الطلب، كما فعلت دول أوروبية عدّة بشكل ثنائي، (وذلك بحسب مركز مالكوم كير – كارنيغي للشرق الأوسط)

لكن ما أثاره النظام السوري فعلاً هو استثمار هذا الحدث الكارثي لتحسين العلاقات مع الخارج وتلميع سمعته الدولية بإظهار نفسه بأنه مازال يتمتع بشرعية ذات وجه إنساني ودبلوماسي يستقبل الوفود ويفتح المعابر الحدودية لاستلام المساعدات لكل الجغرافيا السورية، ولاسيما المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة الرسمية السورية منذ ما يقارب العشر سنوات والتي كانت في السابق تستدعي عمليات مناصراتية كبرى من أجل إدخال المساعدات عبر الحدود، لكن مع ذلك ما يفعله هو لعب مكشوف لجميع الدول والمنظمات الدولية والإقليمية، وخصوصاً تلك الفجور السياسية العميقة التي سببت شروخاً واضحة داخل الدولة والعقد الاجتماعي السوري جراء المجازر والقتل الجماعي والأزمات الإنسانية والاقتصادية في سوريا. ومع ذلك هذه اللقطات لم تفلح رغم المصاعب الكبرى التي مرت على السوريات والسوريين في شمالي سوريا وجنوبي تركيا معاً، فهذه المنطقة تحتوي أكثر من ستة ملايين نسمة فرت من بطش نظام الأسد خلال سنوات استخدام العنف السياسي خلال السنوات العشر الماضية.

النظام السوري في دمشق يحتال على الفرص من أجل اللقاءات مع الدول العربية والعالمية، لكن لا وجه رحيم لاحتواء ما بقي له حتى من مواليه، فتلك المساعدات لم تصل للمناطق المنكوبة والمتضررة، فهناك (160000 عائلة منكوبة) من الزلزال في حلب وحماة وإدلب واللاذقية وطرطوس (بحسب تقرير منظمة الغذاء العالمية لعام 2023) أرقام مرعبة من ملف يتحدث بشكل تفصيلي عن أوضاع سوريا ما بعد الزلزال في مختلف مدن وقرى سوريا الواقعة تحت السيطرة الحكومية بشكل كامل، لكن لا استجابة حقيقية من النظام السوري ولا من قبل مؤسساته الحكومية المعنية في تلافي الأوضاع المعيشية المزرية، ويضاف إلى بعض ما تسرب من السكان المحليين وعلى فيديوهات وسائل التواصل الاجتماعي بأن المساعدات تسرق أمام أعين الناس وتذهب للمنتفعين وأمراء الحرب اليوم في سوريا.

 

لا يملك العالم الحلول ربما لوقت متأخر ليس بقريب 

فلا حلول إنسانية في سوريا قبل الحلول السياسية، أجل هذا ما يقوله المشهد السياسي العام في سوريا لا حلول إنسانية قبل وضع خارطة للحلول السياسية فمن يرسل المساعدات يرسل أيضاً من يسمع ما يمكن أن يقوله الأسد فالوضع مركب، وسوريا بحاجة إلى فتح ملف إعادة الإعمار أيضاً وبشكل عاجل لا يقل أهمية عن احتياجات الناس ما بعد الزلزال بسبب تدني مستويات البنية التحتية والخدمات المعيشية وعلى كل القطاعات الحيوية. 

هذه الحقيقة التي لم تعد تخفى عن عين أحد، لكن ما يظهر بشكل واضح وحتمي بأن المناورات السياسية من حلفاء هذا النظام لم ولن تتوقف يوماً من أجل إخراج الأسد من قمقم العزلة السياسية، وهناك من يريد أن يبقى القرار 2254 مجمداً حتى إشعار آخر، واستبداله بحقيقة أن الأسد لا بديل عنه وعن المنظومة الأمنية التي يترأسها اليوم.

فلقد ذهب إلى سلطنة عمان بعد مضي أقل من 48 ساعة على الزلزال في المنطقة، تلتها بعد ذلك لقاءات عربية شملت الأردن والإمارات العربية المتحدة، وخلال الأشهر اللاحقة المملكة العربية السعودية وجامعة الدول العربية ،  لمناقشة خط من مسارات معقدة فالدول أصبحت تجرب كل الأساليب السياسية السلمية والعنيفة مع هذا النظام .

تعقيدات الفاعلين والمعطلين ضمن الملف السوري فهنا تداخلات تستدعي تدخلات ومفاوضات عميقة، تبرز في مواقف مد وجزر مواقف الدول والمبادرات التي تتخذها فلابد من التحرك المستمر فهناك ملف الكبتاغون الذي يغزو حدود الجوار بكل الوسائل التهريبية ما يشكل خطراً مجتمعياً، ومن جهة أخرى التوغل الإيراني وحليفها حزب الله  في سوريا الذي يشكل حساسية أمنية عالية للمملكة الأردنية -على سبيل المثال- يضاف له التحكم الروسي في المنافذ البحرية السورية مما يخلق توترات إقليمية ودولية، التي تجعل الولايات المتحدة ترفع القبعات الحمراء في تحريك الساكن وتسكين المتحرك في المنطقة، فالملف السوري يدار الصراع فيه بطريقة اللا حل العملي على الأرض، ما يجعله عرضة ليشتعل في كل حدث إقليمي أو دولي. يضاف لذلك ملف اللاجئات/ين والنازحات/ين السوريات/ين لدى دول الجوار ما يسبب احتقاناً شعبياً وحكومياً مضاعفاً من دول وشعوب المنطقة على السوريات والسوريين في جدوى اللا حلول الممكنة اليوم.

حقيقة الأمر تفيد بأن دول المنطقة منهكة من توالي التبعات السياسية العسيرة من المزاجية السياسية العالمية التي تشعل الحرب ومفاوضات بالدم إلى انقلابات الربيع العربي، الذي أصبحت مآلاته مليئة بكل أشكال القمع والتهجير وعلى وجه الخصوص سوريا، فلديها هشاشة على كل المستويات ولا تستطيع الدفع أو احتواء أزمة الاستعصاء السياسي، لعبة الوقت من النظام السوري جلبت اللعنات لكل محاولات التعافي والتسبب في إطالة عمر هذا الاستعصاء وتحول الصورة العامة للخريطة السورية تدريجياً إلى أربع مناطق نفوذ وكل منطقة نفوذ لها إمدادات تساعدها في إدارة جزء من النزاع الوجودي اليوم في سوريا، فلا مشكلة لدى النظام في ذلك طالما أنه أدى مهمته في الوصول إلى سوريا المفيدة كما هي الرواية الموالية المؤكدة. 

لكن المشكلة تكمن بأن لا إدارة جامعة لشكل الاستجابة ولا شكل موحد للتعافي بعد الكارثة الزلزالية عدا عن بقاء السوريات والسوريين في تركيا فهم تحت الاستجابة السورية والتركية معاً فكل هذا يجعل الاستجابة غير منسقة، وتكون فعالة في منطقة جغرافية ما ومهملة في منطقة أخرى.

 

الاستجابة الإنسانية لدى الأطراف السورية

كل الفاعلات/ين في المجال الإنساني يتحدثون عن استجابة في منطقة نفوذ سياسية محددة، هذا ما يزيد وضع الاستعصاء السياسي بشكل أو بآخر لأن الفاعل/ة الإنساني/ة يبرمج كل حقيبته الإغاثية إلى منطقة معينة بالاستجابة، ولا يستطيع سياسياً أن يغطي احتياجات مدنية في منطقة سورية أخرى.

(بحسب ما نشره تقرير بحثي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية): 

ما يحدث في شمال غرب سوريا وعلى الرغم من التحديات والصعوبات، فقد أثبت الفاعل/ة السوري/ة (فرداً أو كياناً أو منظمة) خلال الأيام الأولى للكارثة، مقدرة في تشكيل آلية استجابة فورية استطاعت التصدي لتلك التحديات. ولتمكين نموذج الاستجابة ينبغي الدفع باتجاه تأسيس مؤسسة إدارة الكوارث والطوارئ في ريف حلب وإدلب، يتولى إدارتها فريق الدفاع المدني ويتم دعمها من المجالس المحلية والمنظمات العاملة كافة، وإيجاد آلية موحّدة لإحصاء وتقدير الأضرار، وضرورة التنسيق بين أقسام الإيواء في المنظمات العاملة في الشمال السوري، وتفعيل دور الكيانات الهندسية الرسمية وغير الرسمية.

 حاولت أجسام المعارضة الاستجابة وفق الإمكانيات المتاحة، التواصل مع الجهات والشخصيات المعنية الدولية والمحلية والجاليات السورية في المهجر، كما قامت أجهزتها التنفيذية بتيسير وصول المساعدات والإشراف على تقديم بعض الخدمات أو تيسير تقديمها. ورغم ما يعترض عمل الأجسام السياسية من عوائق داخلية أو خارجية، أو متعلقة بقبول البيئة المحلية؛ إلا أنها بذلت جهداً مهماً، لكنه لم يكن كافياً وينتظر تحسين مستوى التنسيق مع الفاعلات/ين الدوليات/ين والمحليات/ين من أجل إعداد وتنفيذ خطة متكاملة الأركان للمرحلة القادمة، مع استمرار القيام بحملات مناصرة للضغط على الدول المتجهة نحو التطبيع مع النظام.

بيّنت أدوات الرصد والمتابعة ظهور عدد مهم من فاعلات/ي القطاع المدني (السوري وغير السوري) في عملية الاستجابة المدنية للزلزال في مناطق النظام، دون وجود أية إحصائيات دقيقة، سواء عن حجم العمل والتمويل، أو نتائج الأعمال، أو الصعوبات، إذ لم تظهر معظم معرفات تلك المنظمات ذلك، وهو أمر جعل “السيولة” و”التضخيم الإعلامي” عملية إدعائية وشكلانية. وفي الوقت الذي لا يمكن فيه تقليل أهمية التفاعل المدني في الاستجابة للكارثة الإنسانية، إلا أن الخلل الممنهج في البنية القانونية الناظمة للعمل المدني وربطه المستمر بفلسفة النظام الأمنية سيجعل أي عمل مدني محل تقييم مستمر، لا سيما مع توافر العوامل لربطه بذراع النظام التنموي والمتمثل بـ”الأمانة السورية للتنمية”.

وحيث يظهر ذلك خلال هذا العام من خلال الاستجابة بأن لا تعاون سياسي بين السلطات الموجودة اليوم في سوريا لمواجهة هذه الأزمة الكارثية التي أفقدت السكان المحليين القدرة على تحمل التبعات المرعبة ولم تغير من الاتجاهات السياسية في إيجاد مخرج ما للمشهد السوري، بل ظهرت حالة انتفاضة جادة من الجنوب السوري في السويداء تنادي في وجه حكومة دمشق وتطبيق قرار 2254 الذي يعبر عن الحل السياسي لسوريا عبر عدة أشهر متوالية من النزول للشوارع رجالاً ونساءً، بسبب انهيار المنظومة الاقتصادية وتفشي البطالة وبسبب ما وصلت إليه المنظومة الاقتصادية من فساد وسيطرة من أمراء الحرب و سعيها لنشر ثقافة تناول حبوب الكبتاجون بين الشباب  فهذا مؤشر واضح  على غياب أي بوادر إصلاح من النظام السوري.

إن توالي الأزمات والكوارث الطبيعية تجعل الحياة في سوريا مستحيلة يوماً بعد يوم، خاصة في ظل هذا الاستعصاء السياسي الخانق الذي يتحكم به حتى اليوم الأسد وحلفاؤه حيث لا ثقة للدول في التعاطي مع هذا النظام أو تعويمه لفعل أي إصلاح داخلي أو خارجي، ما يؤدي للضغط على سبل العيش للسكان المحليين وسحق قدرتهم للحياة ما يدفعهم للانتحار أو الهجرة الغير شرعية التي تشبه المقامرة إما النجاة أو الموت وغيرها من الطرق، حيث لا نور في نهاية هذا النفق.

 

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية