لم شمل السوريات والسوريين تحت شعارات وطنية

 

*مالينا زيد (اسم مستعار)

 

لا يخفى على الوجود الاحتقان السياسي لدى الناس في سوريا الذي ظهر في مناطق متنوعة تقع تحت سيطرة النظام، فإن “حركة 10 آب” نشرت بعض الصور والفيديوهات التي التقطت في مناطق محددة من سوريا، وانتشرت منشورات مطبوعة في شوارع بانياس وجبلة وطرطوس واللاذقية، وتميزت شكلياً بالابتعاد عن السياسة وبخطاب عابر للجغرافيا تستهدف فيه جيل الشباب ليكون نواة الحراك، وأعلنوا بأنه لن تكون هناك تجمعات ووقت للتحرك، لكن لا يمكن لحالات السكون أن تستمر والرهان على الوقت بأن يكون كفيلاً لحل المشكلات، فجاءت أصوات الأحرار من الساحل عبر فيديوهات لناشطات/ين يدعون فيها لدفع الحل السياسي وانتقاد الوضع المعيشي، وللأسف سرعان ما قام النظام بحملة اعتقالات. 

هذه الهوامش من المساحات المتاحة لناشطات/ي الساحل يقابلها مظاهرات متقطعة تشهدها السويداء، يقمعها النظام بتسليط ميليشياته الرديفة للمخابرات العسكرية والأمن الدولي من عصاباته، والمخاطرة كانت كبيرة هددت السلم الأهلي بين أبناء السويداء، التي شهدت حراكاً متقطعاً خلال السنوات الأخيرة بوتيرة شبه ثابتة.

وكانت مقابلة الأسد على سكاي نيوز؛ التي وجه فيها رسائل للشعب السوري بعدم وجود حل سياسي، وبأن القمة العربية هي علاقات بروتوكولية بين الدول العربية، وتجاهل “قرار 2245″، واستثمر في كارثة الزلزال ومنكوبيه في المناطق السورية لتلميع صورته وخلق قناة التطبيع معه ولرفع بعض العقوبات بحجة دعم المتضررات/ين بالمساعدات التي لم تصل لمستحقيها.

جاءت القرارات الحكومية الأخيرة بتاريخ 15 آب 2023، في رفع أسعار المحروقات بنسبة 250% وما نتج عنه من ارتفاع هائل في الأسعار واستباحة المحافظة لتجارة المخدرات وجعلها ممراً للكبتاجون، لتكون لحظة نفاذ الصبر في محافظة السويداء، إلا أنها المرة الأولى التي تشهد فيها الاحتجاجات في السويداء هذه الكثافة والمشاركة الشعبية الواسعة، ولا سيما امتدادها على معظم مساحة المحافظة لتشمل المدن والقرى على السواء. حيث وصل عدد نقاط التظاهر إلى ما يقارب 40 موقعاً مختلفاً. لاسيما أن المحافظة تعيش أسوأ واقع اقتصادي في تاريخها، والمتمثل بانخفاض القوة الشرائية بشكل كبير ومتسارع والنقص الحاد في الوقود والكهرباء، وخطر الجفاف والعطش جراء فقدان مياه الشرب والري لمجموعات واسعة من السكان، مع تصاعد التضخم وتهاوي قيمة صرف الليرة السورية، وخسارتها لأكثر من 99% من قيمتها، وارتفعت الأسعار ما يقارب من 70 ضعفاً. 

ورغم إصدار رئيس النظام السوري بشار الأسد لمرسوم آخر بتاريخ 15 آب 2023، زاد بموجبه الرواتب بنسبة 100%. إلا أن القدرة الشرائية للمواطن السوري ازدادت ضعفاً وأصبحت في أدنى مستوياتها، إذ بلغ متوسط الرواتب بعد الزيادة 13 دولار أمريكي، أي ما يعادل 40 سنتاً في اليوم للأسرة الواحدة التي تتألف وسطياً من خمسة أفراد. إن الشريحة الأكبر من السكان تعيش تحت خط الفقر المدقع، أضف على ذلك تردي واقع قطاعات التعليم والخدمات العامة والبنى التحتية والتهديد بانهيار القطاع الصحي، والذي يأتي في ظل عجز الحكومة عن تقديم أية حلول للملف الاقتصادي والمعيشي، فضلاً عن تخلي الدولة عن التزاماتها بالدور الحمائي تجاه خطر الجماعات الإرهابية، الذي عانت منه المحافظة في أكثر من مناسبة.

بدأت الاحتجاجات في 17 آب في ساحة الكرامة وسط مدينة السويداء، بعد يومين من قرار الحكومة السورية برفع أسعار المحروقات حيث نزل مئات المحتجات/ين إلى الشوارع والساحات العامة مطالبات/ين بتحسين الأوضاع المعيشية وإلغاء القرارات الأخيرة، ثم تحولت الاحتجاجات إلى مظاهرات تنادي بإسقاط النظام، وتطالب برحيل الرئيس الأسد في مناطق متفرقة من المحافظة. 

اللافت في هذه الاحتجاجات؛ التي عكستها تصريحات شخصيات دينية داعمة للمطالب المحقة وكان وضع المطالب في إطارها الوطني من قبل الشارع، مما جَعَلَ تلك الرموز الدينية بموقع شبه تمثيلي للحراك، في حين كانت سابقاً المرجعيات الدينية متباينة المواقف ومتأرجحة تجاه الحراك في الشارع. حيث أكدت الكثير من الوفود من كافة المكونات ومن مناطق أخرى تأييد خطاب الشيخ ودعم مواقفه من خلال زيارته أو التواصل معه، وأن القيادة الروحية للطائفة الدرزية المتمثلة برئاسة الهيئة الروحية لطائفة المسلمين الموحدين الدروز الشيخ “حكمت الهجري” شيخ العقل الأول، تبنت الحراك بشكل كامل وطالبت بعدم القبول بالحد الأدنى، وأصدرت بياناً رسمياً بتاريخ 19 آب 2023 باسم الشيخ الهجري عكس مطالب الشارع، وأيد فيه مشروعية الحراك الشعبي، ورفض تقديم أية تنازلات، الأمر الذي أمد الحراك بدعم كبير، وشجع شرائح كثيرة للانضمام إلى حراك الشارع، وأيدته الزعامات العشائرية والعائلية الوازنة في المحافظة، والهيئات الاجتماعية والسياسية التي توافدت إلى مقر الشيخ الهجري في بلدة قنوات، لتعلن تأييدها الكامل للحراك وعدم التنازل عن مطلب إسقاط النظام وتحقيق الانتقال السياسي.

وقد ظهر جلياً أثر هذا البيان في إعطاء الحراك زخماً أكبر في مدينة السويداء التي تعتبر مركز الاحتجاجات. بالإضافة إلى توسع رقعة الاحتجاجات في الريف وانضمام عشرات القرى إلى الحراك.

والأمر اللافت أيضاً انضمام العشائر البدوية إلى الحراك الشعبي (الجماعات السكانية من البدو المسلمين السنة المقيمين في المحافظة). حيث قام ممثلون عن العشائر بزيارة مقر الشيخ الهجري، ثم أصدروا بياناً رسمياً بتاريخ 26 آب، يتبنون فيه مطالب الحراك كاملة، معلنين مشاركتهم في الاحتجاجات. الأمر الذي يعتبر حدثاً غير مسبوق في احتجاجات السويداء.

 بالمقابل صدر بياناً آخراً بتاريخ 24 آب 2023 عن دار الطائفة التي يتزعمها شيخ العقل الثاني “يوسف جربوع” وموقعاً من شيخ العقل الثالث “حمود الحناوي”. وقد طالب البيان بتغيير حكومي والمطالبة بمحاسبة الفاسدات/ين وفتح معبر حدودي مع الأردن بإشراف النظام بهدف تحسين الواقع الاقتصادي في المحافظة، إلا أن هذا البيان لاقى استنكاراً واسعاً، حيث اعتبرته المحتجات/ون لا يعبر عن جوهر الحراك الشعبي المطالب برحيل النظام والانتقال السياسي.

وأعلن شيخ العقل الثالث “حمود الحناوي” تأييده للحراك في الشارع في مضافته في قرية سهوة البلاطة، أمام وفد من الرجال والنساء من بلدة القريا، قبل أن يتوجه الوفد إلى ساحة الكرامة في السويداء المدينة، للمشاركة في الحراك. في حين ما زال شيخ العقل الثاني “يوسف جربوع” على موقفه الذي يأمل الناس منه تغيره ليعكس مطالب الشارع.

ولليوم العاشر منذ بدء حركة الاحتجاجات لم يسجل أي ظهور مسلح (فردي أو جماعي) ضمن الحراك الشعبي على الأرض، بل هناك تأكيد وإصرار على سلمية ومدنية الحراك، بالرغم من وجود عدد من الفصائل العسكرية التي يطلق عليها “فصائل الحماية الذاتية” إلا أن المشاركة المدنية والسلمية هي العنوان الأبرز للمشاركات/ين في الحراك. ويأتي ذلك مع تأكيدات مستمرة من قبل مختلف الزعامات الدينية والمجتمعية وقيادات الحراك الشعبية على ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة وعدم تخريب الممتلكات العامة والخاصة.

لا يوجد سقف لمطالب السويداء، حيث أنها كانت على مسافة واحدة من كل القضايا المحقة للسوريات/ين من كافة المكونات التي تقع تحت سيطرة العديد من قوى الأمر الواقع المختلفة والمحتلة، لا يوجد سوى قوى النظام التي ليست على توافق معه. ارتفع سقف المطالب ليصل للمطالب السياسية مع التأكيد على وحدة الهوية الوطنية ورفض أي اتهامات انفصالية، في الوقت الذي عجزت فيه السلطة عن تقديم حلول ناجعة ومقبولة، بل وصمَّت آذانها عن سماع ما يردده الشارع. 

أكد هذا الحراك من خلال تنوع أطياف وشرائح المشاركات/ين وفئاتهن/م والحضور الكبير للنساء بشكل يومي على وحدة الصف ووطنية المطالب وأحقيتها، حيث يتشارك الجميع بالهموم ذاتها بالعيش الكريم في دولة المواطنة التي تتساوى فيها جميع المواطنات/ين الأحرار المسؤولات/ين في المشاركة باتخاذ القرارات المتعلقة بمصائرهن/م وحماية جميع حقوقهن/م المشروعة، وهي أحد المطالب ذات الأولوية التي يعبر عنها المحتجات/ون يومياً من خلال اللافتات والشعارات المطروحة على ساحة التظاهر، كما تؤكد المطالب على أن (سوريا لكل السوريات/ين)، وأن العدالة مطلب المحتجات/ين، وتؤكد كذلك على أهمية مكافحة الفساد والمفسدين بدءاً من أعلى سلطة في الدولة. كما رددت المتظاهرات/ون شعارات طالت السلطة الحاكمة مطالبةً برحيل رأس النظام والبدء بعملية انتقال سياسي وفقاً للقرار 2254، ويؤكدنَّ/ون يومياً على أن ما يُشاع عن المخططات الانفصالية عارٍ عن الصحة، وهو بمثابة حرف لمسار المطالب وتشويه صورة الحراك على الصعيد الوطني، فالسوريات/ون بمختلف تنوعاتهم الطائفية والعشائرية والإثنية والقومية هن/م جزء لا يتجزأ من النسيج السوري الواحد.

 

*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية