ماذا حصل بعد ذلك؟

 

مقابلة أجرتها عضوة الحركة السياسية النسوية السورية وردة الياسين

 

  • ماذا حصل بعد ذلك ليسرى؟
  • أخبرتني والدتها بأنها انتحرت، تناولت علب مختلفة من حبوب الدواء دفعة واحدة، فماتت. 

ضمن حملة الـ 16 يوماً للقضاء على العنف ضد المرأة، كان حديثي مع “خلود العبد الله”، الصحفية والمراسلة لإحدى المنصات الإعلامية، حيث طلبت من خلود أن تحدثني عن مشاهداتها لقصص نساء تعرضن للعنف. فكانت يسرى واحدة من النساء اللواتي تعرفت خلود على قصتها عن قرب، كما إسراء التي تمكنت خلود من مقابلتها لتروي حكايتها لنا. 

 

يسرى 

قبلت والدة يسرى وبصعوبة رواية قصة ابنتها، بعد أن طمأنتها خلود بأننا سنستخدم اسماً مستعاراً، ولن نشير بأي طريقة لأية تفاصيل قد تكشف هويتها.

“يجتاحني الخوف” هكذا بدأت والدة يسرى حديثها، وتقصد الخوف من زوجها، والد يسرى، الذي أصدر أوامراً صارمة لكل أفراد عائلته بعدم تداول قصة ابنته في أي مكان أو مجلس واعتبارها بأنها لم تكن موجودة أساساً. وقصة يسرى كما قالت والدتها: 

“تعرضت يسرى وطيلة عشرة سنوات (مدة زواجها)، لعنف جسدي ولفظي، مارسه عليها زوجها، لتقرر يسرى ذات مرة أن تترك المنزل ودون ان تخبر أحداً، تاركة وراءها أطفالها الثلاثة. يسرى ذاتها لم تكن تعلم كيف اتخذت قرار الهروب، لم يكن لديها خطة، وعيها كان مشتتاً، فقط ظنت أن الهروب من بيتها إلى خارج بلدتها سيساعدها على التحرر من العنف. 

الجميع لا يرحم، زوجها، والدها، وسكان بلدتها، الذين أشاع بعضهم أنها هربت مع أحد عساكر قوات النظام، المتواجدين على الحاجز أمام مدخل بلدتها، هكذا دون دليل.

ترجع يسرى إلى بلدتها ومنزلها، بعد سلسلة من المفاوضات بين والدها وزوجها، والدها الذي عرف مكانها وأجبرها على العودة لدحض كل الإشاعات، وكي لا يحمل أطفالها وصمة عار والدتهم، أجبرها وهو يرجو زوجها لإعادتها لبيته، وليفعل بها ما يشاء، ما عدا الطلاق. 

يسرى لم تهرب مع أي عسكري، ذهبت إلى بيت صديقة لها في بلدة مجاورة. لم يكن الحال أفضل بعد عودتها، فقد استمر العنف ولكن مضاعفاً هذه المرة كعقوبة لها على هروبها، وعلى مرأى ومسمع والدها الصامت عن عار ابنته. حتى يسرى بقيت صامتة لمدة عامين، ثم آثرت الصمت وإلى الأبد، حين تناولت علب مختلفة من حبوب الدواء دفعة واحدة وانتحرت”. 

تشعر والدة يسرى بأن الألم على ابنتها يقتل روحها وجسدها رويداً رويداً، وهي تجلد ذاتها كل يوم منذ انتحار ابنتها، وتعتبر نفسها بطريقة ما شريكة في انتحار ابنتها، لكنها كما قالت: “أنا قليلة الحيلة، ضعيفة، كلنا نحن النساء ضعيفات”. 

 

 

إسراء

“قلت بيني وبين نفسي، بما أن وضع أهلي المادي لا يسمح لي بإتمام تعليمي الجامعي، سأوافق على الزواج من الشاب الذي يكبرني بعشر سنوات، بعد أن تعهد لي، وأمام أهلي، بأنه سيسمح لي أن أكمل دراستي الجامعية” هكذا تبدأ إسراء قصتها. 

تزوجت إسراء في الثامنة عشر من عمرها، تخيب ظنونها، وينكث زوجها العهد، بل وأكثر: “أرغمني بداية على تغيير طريقة لباسي، ارتديت ملابس طويلة وفضفاضة، ووضعت نقاباً على وجهي. منعني زوجي من حضور الأعراس والمناسبات، وسمح لي بزيارة أهلي مرة واحدة كل شهر. قلت لا بأس، آخر همي، طالما سأكمل تعليمي الجامعي. لكن كنت أقول لنفسي؛ أين الوقت إذا ما التحقت بالجامعة؟ فقد كنت مسؤولة عن خدمة منزل يقطن فيه عشرة أشخاص، أنا وزوجي وباقي أفراد أسرته”.

منذ الصباح الباكر وحتى آخر الليل، إسراء مسؤولة عن كل أعمال المنزل، وإن رفضت فالضرب والتوبيخ مصيرها: “منهكة أرتمي على سريري آخر الليل من كل أعمال المنزل. ذات مرة قلت بغضب لزوجي بأنني تعبت من خدمة كل أفراد عائلته، شد شعري بقوة وصفعني، وانهال عليَّ بالشتائم. قلت لنفسي اصبري، فموعد قبول وتسجيل الجامعة قد اقترب، لم أرد خسارة حلمي”. 

“جاء موعد التسجيل في الجامعة حينها اصطدمت بواقع جديد لم أحسب حسابه، حيث منعني زوجي من الذهاب للتسجيل في الجامعة وطلب مني البقاء في البيت، ملقياً عليَّ محاضرته اليومية البالية، بأن مصير المرأة هو بيتها وزوجها وأطفالها وهذا ما يجب أن تفعله فقط في الحياة”.

تذهب إسراء إلى والدها عله يساعدها، لا تريد أن تشتكي له عن ضرب زوجها لها، ولاعن تعبها الجسدي بسبب العمل المنزلي، ولا عن اختناقها في لباسها، ولا عن حبسها، هي فقط تريد أن تطلب منه الضغط على وجها بأن يفي بالعهد الذي تعهده أمامه، بأن يدعها تكمل تعليمها الجامعي، حلمها، غير أن ما حدث كان أشد قسوةً على إسراء: “قال لي والدي أن هذا شأن خاص يجب أن يتم حله بيني وبين زوجي، ويجب أن يتم الاتفاق بيننا، لأن ذلك شأن مصيري قد يؤدي إلى الطلاق. وأخبرني أن الطلاق أمر مستبعد في كل الحالات، لأنه يعتبر عيب في مجتمعنا، والمطلقة تكون منبوذة من المجتمع أو امرأة فاشلة”. 

بين الطلاق الذي هددها به زوج إسراء إن ذهبت إلى الجامعة رغماً عنه، وبين حلمها في إكمال تعليمها الجامعي، وبين حزن والدها الشديد إن تطلقت، تسقط إسراء فريسة للضغوط النفسية ويتغلغل الاكتئاب في نفسها، ويصبح سخطها وغضبها مكبوتاً، يردع ظهورهما علناً علب كثيرة من الحبوب والأدوية النفسية التي بدأت إسراء بتعاطيها: “أتناول الحبوب المهدئة والمنومة منذ أكثر من سنة تقريباً، وتناولت حبوب قال لي الطبيب أنها مضادات للاكتئاب، أشعر بالثقل في جسدي وخواءً في داخلي وروحي. لم يعد يهمني تحقيق حلمي في إكمال تعليمي الجامعي، فجل همي الآن أن أتعافى من حالتي النفسية، لأنني إذا لم أتعافى قد يطلقني زوجي الأمر الذي سيجعل والدي حزيناً جداً”. 

 

خلود العبد الله 

رغبت خلود، مشاركة قصتها: “قد أكون أكثر حظاً من نساء أخريات من ناحية إنني لم أختبر عنف أسري، ولم تسلب مني حقوقي في متابعة تعليمي واختيار شريك حياتي أو ممارسة العمل الذي أحب، ولكنني اختبرت وما زلت اختبر أشكالاً من عنف آخر، زجت بي في دوائر لا تنتهي من الخوف والقلق والتوتر والضياع، وأثرت سلباً على علاقتي بزوجي وبناتي وأهلي ومحيطي ككل”. 

تقول خلود: “مدفوعة بكل الحماس لتغيير واقع النساء في درعا؛ بدأت العمل مع تجمع نسائي في عام 2015، يهدف إلى تمكين النساء وتثقيفهن سياسياً، كنت مسؤولة وبالتنسيق مع التجمع، عن تجهيز وتقديم محاضرات للنساء في بلدتي، عن العنف والجندر والدستور وقانون الأحوال الشخصية. وهنا بدأت الحكاية، إذ بدأت تنهال عليَّ اتهامات من قبل بعض (كبارية البلد) كما نقول، وبعض الرجال من أنني استخدم مصطلحات الغرب لحرف النساء، وهدم تقاليد المجتمع، والتطاول على المقدسات الدينية. أحد وجهاء العشائر زار زوجي في منزلنا، وشتمه لأنه لا يستخدم صلاحياته كرجل وكزوج ورب عائلة في إيقافي عن ما أفعله، الأمر الذي سبب بعض التوتر في علاقتي مع زوجي، والتي زالت لاحقاً بسبب مساندته لي وقناعته بما أقوم به، وبذلك تمكنت من المضي قدماً بعملي”.

تنفتح أمام خلود الفرصة لتعمل في مجال الإعلام بعد عام 2016 كمراسلة وككاتبة صحفية في عدد من المواقع الإعلامية: “ترددت كثيراً في البداية، فالعمل الإعلامي يعني الأضواء، وكي أحمي نفسي استخدمت في كتاباتي عشرات الأسماء المستعارة. بدأت بالكتابة عن الواقع الإنساني في مناطق درعا الخارجة عن سيطرة النظام، نقلت بعضاً من المجريات والأحداث العسكرية أيضاً بأسماء مستعارة. واقع النساء بقي هاجسي، لذلك أردت الكتابة عنهن، لم أكن أريد أن أكتب عن وضعهن المعاشي السيء أو حقوقهن التي تسلب منهن، كنت أريد أن أكتب عن حجم الانتهاكات التي كن يتعرضن لها ومن كل أطراف الصراع والنزاع؛ النظام، جبهة النصرة، تنظيم الدولة (داعش)، فصائل الجيش الحر، كلهم كلهم، كل تلك الأطراف قتلت واعتقلت وارتكبت انتهاكات مختلفة بحق النساء. وهنا واجهت شكلاً آخراً من العنف، فمحرر إحدى المواقع المحلية التي كنت أعمل بها، وتحت ذريعة سياسة المنصة التحريرية والخوف من سلطات الأمر الواقع، رفض عشرات المقالات التي أشارت بأصابع الاتهام لانتهاكات ارتكبتها الفصائل المسلحة المعارضة، أو تلك التي قامت بها الفصائل الإسلامية الراديكالية. قال لي حرفياً مرة: (لا تجلبي لي وجع الرأس)، وحين كنت أناقشه طويلاً بأهمية الكتابة عن انتهاكات النساء، يقول: (ليست أولويتنا وليست قضيتنا الأساسية)”. 

  • ربما كان فعلاً خائفاً من سلطات الأمر الواقع (قلت لخلود). 
  • ربما، ولكنه رفض أيضاً مقالات عديدة كتبتها عن جرائم حدثت تحت ذريعة الشرف، وقتل نساء بسبب إشاعات وتهم في شرفهنَّ وعرضهنَّ. إنهم يتذرعون بأي شيء كي يبقى الواقع على مقاسهم (ردت خلود).  

في صيف عام 2018، ينتهي نشاط خلود مع التجمع النسائي بسبب سيطرة قوات النظام على منطقة درعا، وتواجه في عام 2020 تهديداً أكبر عندما ذهبت مع بناتها وزوجها إلى مدينة درعا لاستخراج جوازات سفر: “في مبنى الهجرة والجوازات، وبعد أن تم (تفييش) أسماءنا جميعاً، قدم أحد موظفي الهجرة وأخبرني وعائلتي بأنني لابد أن أراجع فرع الأمن السياسي، حيث يوجد على اسمي إشارة. ذهبت في نفس اليوم لفرع الأمن السياسي، أدخلوني إلى غرفة للتحقيق، وبدأ المحقق يوجه اتهامات لي من قبيل عملي كإعلامية لإحدى الوكالات المعارضة للنظام، واتهامات أخرى بتعاوني مع الإرهابيين والمخربين. أنكرت، أنكرت كل شيء. هز المحقق برأسه رافضاً إنكاري وتمتم قليلاً ثم قال لي: إن لم تصمتي وتتوقفي فحياتك وحياة بناتك في خطر. وقعت أوراقاً لم أعرف محتواها، كنت خائفة، خرجت مذهولة صامتة، ضممت بناتي وعدت أدراجي إلى بلدتي، لن أكتب مرة ثانية عن السياسية، لن أنقل أي واقع معاشي أو إنساني مرة أخرى، هذا ما عزمت عليه، لكنني سأبقى أتحدث عن قضايا النساء، لكن باسم مستعار جديد، فكان اسمي الجديد هو خلود العبد الله”. 

  • يبدو أن دائرة العنف لم تنكسر ومازالت تتسع أكثر يا خلود.
  • أؤمن بأن خلف كل باب في بلدتي وفي القرى والبلدات المجاورة تقبع حكاية عن امرأة تتعرض لشكل من أشكال العنف. 

هذا ما ختمنا به حديثنا أنا وخلود. 

 

انتحرت يسرى، وتزوج زوجها بعد موتها بثلاثة أشهر. في حين ما تزال إسراء رهينة حبوب الاكتئاب والمنومات والمهدئات، ويعيش زوجها ووالدها حياة نفسية وجسدية جيدة. أما خلود فتقبع تحت الخوف والقلق المستمر، حيث باءت بالفشل كل محاولاتها في التواصل مع جهات إعلامية ومنظمات دولية إنسانية وحقوقية لحمايتها ومساعدتها. وما تزال، وحتى اللحظة، تسجل حالات عنف بأشكاله المختلفة ضد النساء والفتيات في كل أنحاء العالم، يعيش مرتكبيها طلقاء دون محاسبة أو عقاب. 

 

إشارة: 

العنف يلاحق النساء حتى من خلال أسمائهن “وجودهن وعدم عدميتهن”. فكل الأسماء الواردة في النص، أسماء مستعارة، كلهنَّ رفضن الإفصاح عن أسمائهن الحقيقة خوفاً من تعرضهن للمزيد من أشكال العنف إن أفصحن عن أسمائهنَّ، عنف قد يطالهن من السلطة الأبوية، خوف ربما يلاحقهن من وصمة عار أو من “فلسفات” وتحليلات وتعنيفات متغلغلة عميقاً في المجتمعات الذكورية، وعنف آخر قد يكون من سطوة أمنية تحكم بشدة على أصواتهنَّ وحرياتهنَّ.