مذكرة قانونية – البحث عن العدالة في سوريا: الأطر القضائية والدولية

 

*عبد الرحمن الخضر

 

منذ بداية الثورة السورية في عام 2011، تعرضت سوريا لانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وجرائم ضد الإنسانية من قبل النظام السوري وحلفائه. وتشمل هذه الجرائم استخدام الأسلحة الكيميائية والتعذيب والإخفاء القسري والقصف الممنهج للمناطق المدنية. تلك الجرائم أثارت استنكارًا دوليًا وطالبت بتحقيق العدالة ومحاسبة المسؤولين عنها. ومع ذلك؛ فإن تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا يواجه تحديات كبيرة نظرًا للوضع السياسي والأمني المعقد والمتغير، والحصانة التي يتمتع بها الرؤساء والقادة في القانون الدولي، والمصالح والتحالفات الإقليمية والدولية المتناقضة. لذلك سنسلط الضوء على مسارات العدالة الانتقالية في سوريا، وكيفية استثمارها سياسيًا بشكل عام ومن قبل الحركة السياسية النسوية السورية بشكل خاص، وسنحاول تحليل تأثيراتها من منظور نسوي. ومن الجدير بالذكر أن جميع المسارات السياسية والقانونية يجب أن تتم بعد تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254 وتشكيل حكومة انتقالية وطنية.

 

ما هي المسارات القضائية للعدالة في سوريا؟

يمكن تصنيف مسارات العدالة الانتقالية في سوريا إلى ثلاثة أنواع: المحاكم الوطنية، والمحاكم الدولية، والمحاكم الخاصة أو المختلطة. تعتمد المحاكم الوطنية على القوانين الداخلية للدولة وتكون أقرب للضحايا والمجتمع، لكنها تتطلب وجود حكومة انتقالية تلتزم بالديمقراطية وحقوق الإنسان. ونظرًا للوضع الحالي في سوريا، فإن المحاكم الوطنية ليست خيارًا واقعيًا في الوقت الحالي.

تعتمد المحاكم الدولية على القانون الدولي الجنائي وتتمتع بالاختصاص العالمي لمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية، ولكنها تواجه صعوبات في مواجهة المعارضة من النظام السوري وحلفائه، وسوريا لم توقع على ميثاق روما الأساسي الناظم لمحكمة الجنايات الدولية، لذلك فإنها غير ملزمة لولايتها القضائية. وتحتاج إلى تعاون دولي قوي لتحقيق نجاحها.

تعتمد المحاكم الخاصة أو المختلطة على مزيج من القانون الدولي والقانون الوطني وتضم قضاة دوليين ووطنيين. يعد هذا المسار أكثر مرونة وتكيفًا مع الظروف المحلية والدولية، ولكنه يتطلب تفاهمًا وتنسيقًا بين الأطراف المعنية وتمويلًا ودعمًا كافيًا.

بشكل عام؛ تعتبر المحاكم الدولية والخاصة أو المختلطة خيارات أفضل في سوريا، لكنها تحتاج إلى جهود مكثفة وتعاون دولي قوي لتحقيق العدالة الانتقالية. ومع ذلك؛ يجب الأخذ في الاعتبار أن المحاكم والدعاوى التي ترفع حاليًا تخضع لمبدأ الاختصاص العالمي، وهو مبدأ يسمح للمحاكم الدولية بمحاكمة الجرائم غير المقتصرة على الأراضي الوطنية للدولة التي تدين المتهمين.

 

محكمة العدل الدولية والدعوى التي رفعتها كل من هولندا وكندا ضد حكومة دمشق:

محور هذه القضية عدم تطبيق النظام السوري (بوصفه ممثلاً قانونيًا للدولة السورية) اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة، أو العقوبة القاسية، أو اللاإنسانية، أو المهينة واتفاقيّة حماية الأشخاص من الاختفاء القسري واتفاقيّة حظر استخدام السلاح الكيميائي. وبالتالي خرقها بالتزاماتها القانونية بعدما انضمت في آب 2004 لاتفاقية مناهضة التعذيب ومن ثم قيامها بإصدار القانون رقم 16 لعام 2022 لتجريم التعذيب بما يوائم وجوب تكييف تشريعاتها الوطنية مع التزاماتها الحقوقية الدولية.

تقدمت بهذه الدعوى كل من كندا وهولندا بصفتهما أطرافًا في اتفاقية مناهضة التعذيب ضد النظام السوري، وركزت الجلسة على طلب من هولندا وكندا بفرض أوامر – تعرف باسم التدابير المؤقتة – على النظام السوري لوقف التعذيب على الفور لحماية الضحايا المحتملين، بينما تستمر المحاكمة التي تتهم النظام السوري بانتهاك اتفاقية التعذيب.

إذًا فهذه المحاكمة ليست محاكمة لأشخاص أو مسؤولين ارتكبوا أو على الأقل اتهموا بارتكاب جريمة التعذيب وإصدار أحكام جنائية بحقهم، بل هي محاكمة للحكومة السورية بكليتها بهدف تحميلها المسؤولية القانونية عن ارتكاب أجهزتها الحكومية والأمنية لجرائم التعذيب وغيرها من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية والمهينة واللاإنسانية.

 

ما هي أهمية هذه الدعوى؟

تعتبر هذه الدعوى الأولى من نوعها التي ترفع ضد دولة عربية بتهمة التعذيب أو بانتهاك اتفاقية مناهضة التعذيب. كما أنها أول مرة في تاريخ الثورة السورية ستنظر محكمة دولية رسمية مشكلة من الأمم المتحدة بدعوى قضائية تتهم فيها نظام بشار الأسد بـ “التعذيب” و”استخدام أسلحة كيميائية”. ولأن الدعوى الحالية تسلط الضوء على منظومة الحكم في سوريا ككل، لا على الأفراد، وعلى مسؤولية النظام بجميع أركانه وركائزه وفروع مخابراته وسجونه وجميع الضحايا والناجيات/ين المنتهكة حقوقهن/م. إضافة لذلك يحق لمحكمة العدل الدولية طلب الوثائق من أية منظمة أو مؤسسة مجتمع مدني حول القضية، كما يجوز للمنظمات أن تقدم الوثائق ذات الصلة بالدعوى والتهم الموجهة لنظام بشار الأسد. وبناء سجل تاريخي للانتهاكات في سوريا، في وقت يسعى فيه البعض في المجتمع الدولي إلى محو الحقائق والوقائع التي عاشتها الناجيات/ين والضحايا، كما أنه قد يؤثر على التمويل الدولي الذي ينتظره نظام الأسد بفارغ الصبر بحجة إعادة الإعمار والاستثمار في سوريا.

وبالرغم من الصعوبات والتحديات التي تواجه الدعوى، فإنها تمثل خطوة مهمة وتاريخية في مسار العدالة الانتقالية في سوريا، وترسل رسالة قوية للنظام السوري والعالم بأن الإفلات من العقاب لن يستمر، وأن الحقيقة والعدالة والكرامة هي حقوق لا تسقط بالتقادم.

كما يعد القرار الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في لاهاي قرارًا مؤقتًا، يهدف إلى حماية حقوق الضحايا والناجيات/ين من التعذيب والمعاملات القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة في سوريا.

ومن المتوقع أن يكون لهذا القرار تأثيرات سياسية وقانونية وإنسانية على الوضع في سوريا، منها:

  • زيادة الضغط والعزلة على النظام السوري وحلفائه، وتقويض شرعيتهم ومصداقيتهم، وتعرضهم للمساءلة والعقاب.
  • تقديم الدعم القانوني والنفسي والاجتماعي والمادي للضحايا والناجيات/ين من النزاع في سوريا.
  • توفير الحماية والإغاثة والإنصاف والتعويضات والإعادة الطبيعية للشعب السوري.
  • تشجيع المزيد من الدول والمنظمات الدولية والإقليمية والمحلية على الانضمام إلى الجهود الدولية لتحقيق العدالة في سوريا.
  • تعزيز الوعي والتوعية بأهمية العدالة الانتقالية ودورها في تحقيق السلام والمصالحة وحقوق الإنسان في سوريا.

 

السلاح الكيماوي وقرار المحكمة الفرنسية الصادر بحق بشار الأسد وشقيقه:

في الوقت الذي تشهد فيه سوريا انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، تتصاعد الضغوط الدولية على نظام بشار الأسد لمحاسبته على جرائمه، خاصة استخدامه للأسلحة الكيميائية ضد المدنيات والمدنيين في عدة مناسبات.
في ذات السياق أصدرت محكمة فرنسية في 23 أيار عام 2023 قراراً بفتح تحقيق قضائي ضد الرئيس السوري بشار الأسد وشقيقه ماهر الأسد وعدد من المسؤولين العسكريين والأمنيين في نظامه، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، على خلفية الهجوم الكيماوي في دوما بالغوطة الشرقية بريف دمشق في 21 آب عام 2013، والذي أسفر عن سقوط مئات الضحايا من المدنيات والمدنيين (أكثر من 1466 شهيد وإصابة ما يقارب 10000 شخص، معظمهم من النساء والأطفال حسب إحصائية المكتب الطبي الموحد في الغوطة).
بناءً على مجريات الدعوى القائمة أصدر القضاء الفرنسي يوم الأربعاء 15 تشرين الثاني 2023 قراراً يقضي بإصدار مذكرات توقيف بحق أهم شخصيات النظام السوري وهم: رئيس النظام السوري بشار الأسد، اللواء ماهر الأسد، العميد بسام الحسن، العميد غسان عباس.
يعتبر هذا القرار الأول من نوعه التي يستهدف الرئيس السوري بشار الأسد ومقربين منه بشكل مباشر، ويستند إلى القانون الفرنسي الذي يسمح بملاحقة مرتكبي جرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب في أي مكان بالعالم، ذلك في حال كان أحد الضحايا يحمل الجنسية الفرنسية، وبناءً على هذا الاختصاص قامت إحدى ضحايا الكيماوي والتي تحمل الجنسية الفرنسية برفع الدعوى، وبمساندة منظمات حقوقية للإدلاء بشهاداتهم وتقديم التوثيقات للمحكمة.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف ستتمكن المحكمة الفرنسية من تنفيذ قرارها وتوقيف المتهمين وتقديمهم للمحاكمة، في ظل وجودهم في سوريا، وتمتعهم بحصانة قضائية بموجب القانون الدولي؟

للإجابة على هذا السؤال علينا أولاً معرفة تعريف الحصانة القضائية: هي المنع الذي يحظى به بعض الأشخاص من التقاضي، أو التوقيف، أو الاعتقال، أو الحبس، أو العقاب، أو أي إجراء قضائي آخر، بسبب موقعهم، أو وظيفتهم، أو ممثليتهم لدولة، أو منظمة دولية. وتهدف الحصانة القضائية إلى حماية الأشخاص المعنيين من التدخلات السياسية أو القضائية التعسفية أو الانتقامية من جانب دولة أخرى، وإلى تسهيل ممارسة مهامهم وواجباتهم بحرية وكفاءة.

أما الحصانة القضائية للقادة والرؤساء في القانون الدولي تعتبر مسألة معقدة ومتنوعة. لذلك يعتبر القانون الدولي مبدأ المساواة وعدم الإفلات من العقاب لجميع الأفراد، بما في ذلك القادة والرؤساء. لكن هنالك بعض الاستثناءات والحصانات التي يتمتع بها رؤساء الدول والقادة السياسيون والعسكريون وهي:

الحصانة الشخصية: هي الحصانة المطلقة التي تحمي رئيس الدولة الحالي من أي مساءلة قضائية أو تنفيذية أو إدارية في أي دولة أخرى، بغض النظر عن طبيعة الأعمال التي قام بها، سواءً كانت رسمية أو خاصة، وذلك بناءً على مبدأ أن رئيس الدولة هو أعلى ممثل لها ويعبر عن إرادتها وسيادتها. وتنتهي هذه الحصانة بانتهاء مدة ولايته أو بتنازله عنها أو بإقالته، أو عزله، أو تنحيه، أو بوفاته.

الحصانة الوظيفية: فهي الحصانة النسبية التي تحمي رئيس الدولة السابق من المساءلة القضائية في دولة أخرى عن الأعمال الرسمية التي قام بها باسم دولته أثناء توليه منصبه، وذلك بناءً على مبدأ أن هذه الأعمال تعود إلى الدولة نفسها وليس إلى الشخص الذي نفذها، وتستمر هذه الحصانة بعد انتهاء مدة ولايته.

بشكل عام؛ يجب أن يتم التوازن بين حماية القادة والرؤساء ومحاسبتهم عند ارتكابهم لجرائم خطيرة، وذلك من أجل تعزيز العدالة وحقوق الإنسان في المجتمع الدولي.

 

تأثير القرار الصادر من باريس بحق بشار الأسد وشقيقه على المسار السياسي:

إن القرار الصادر من محكمة فرنسية بإصدار مذكرات توقيف بحق الرئيس السوري بشار الأسد وشقيقه ماهر الأسد ومسؤولين سوريين آخرين بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، قد يكون له تأثيرات سياسية مهمة على الوضع في سوريا، ومن بين هذه التأثيرات:

  • تقويض الشرعية الدولية والداخلية للنظام السوري: قد يؤدي القرار إلى زيادة عزلة النظام السوري وتعرضه للمزيد من العقوبات والمقاطعة من قبل المجتمع الدولي، مما يقلل من فرص تحقيق أي تسوية سياسية تحافظ على مصالحه وحقوقه.
  • تعزيز موقف المعارضة السورية: قد يعزز القرار موقف المعارضة السورية والقوى الثورية والديمقراطية، ويقدم الدعم السياسي والمعنوي والقانوني لها، مما يشجعها على مواصلة النضال والمطالبة بالتغيير الجذري للنظام السوري.
  • تحفيز الحراك الشعبي والمجتمعي والمدني: قد يحفز القرار الحراك الشعبي والمجتمعي والمدني في سوريا، ويوفر الحماية والإنصاف والتعويضات والإعادة الطبيعية للضحايا والناجيات/ين من الهجمات الكيماوية وغيرها من الانتهاكات والجرائم التي ارتكبها النظام السوري وحلفاؤه.
  • تحسين العلاقات والتعاون الدولي: قد يساهم القرار في تحسين العلاقات والتعاون بين فرنسا والدول الأوروبية والدول العربية والإسلامية والدول الصديقة للشعب السوري، وتنسيق الجهود والمواقف والمبادرات السياسية والدبلوماسية والإنسانية لدعم العدالة والسلام والمصالحة والديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا.

 

التأثيرات والتحليلات النسوية:

  • تسليط الضوء على الجرائم الجنسية والجندرية التي تعرضت لها النساء السوريات، والتي تمثل جزءًا كبيرًا من الجرائم الدولية، والتي تحتاج إلى اهتمام خاص ومعالجة متخصصة ومنصفة وحساسة، والتي تؤثر على حياة وكرامة وصحة وحقوق النساء السوريات.
  • تقييم النظام القانوني والقضائي السوري من منظور نسوي، والكشف عن التمييز والعنف والقمع والاستبداد الذي يمارسه ضد النساء السوريات، والمطالبة بإصلاحه وتحديثه وتنويعه وتنسيقه مع القانون الدولي والمعايير الحقوقية والجندرية.
  • تحليل العلاقة بين العدالة الانتقالية والسلام والمصالحة والديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا من منظور نسوي، والتأكيد على أنه لا يمكن تحقيق أي من هذه الأهداف دون مشاركة وتمثيل وتمكين وحماية وتمجيد النساء السوريات.
  • تقديم التوصيات والمقترحات والرؤى والأفكار والحلول النسوية للقرارات القضائية الصادرة ضد النظام السوري ومسؤوليه، والتي ترتكز على الخبرات والمعارف والمطالب والرؤى والقيم والمبادئ النسوية.

 

التوصيات:

  • الاستمرار في دعم وتعزيز الدعاوى القضائية الدولية ضد النظام السوري ومسؤوليه، وضمان مشاركة النساء بشكل فعال وإيجابي ومتساوٍ في هذه الجهود.
  • تعزيز تنظيم وتوحيد وتمثيل الحركة النسوية السورية، وتحديد أهدافها واستراتيجياتها وخططها وبرامجها ومشاريعها وشركاتها وتحالفاتها، وتعزيز قدراتها ومواردها وتأثيرها.
  • تعزيز التواصل والحوار والتعاون مع الحركات النسوية والمنظمات النسوية والناشطات النسويات في الداخل والخارج، وتبادل الخبرات والمعلومات والتجارب والتحديات والنجاحات والدروس المستفادة.
  • تعزيز دور النساء السوريات في السياسة والقيادة والتأثير في جميع المجالات والمستويات والقطاعات، والمطالبة بحقوقهن في المشاركة والتمثيل والتصويت والانتخاب والتعيين والترشيح والترقية والتكريم.
  • تعزيز الوعي والتثقيف والتربية والتدريب والتأهيل والتمكين والتطوير والابتكار والإبداع للنساء السوريات في جميع المجالات والمستويات والقطاعات، وتوفير الفرص والمنح والمساعدات والخدمات والمرافق والموارد والأدوات والتقنيات لهن.
  • المطالبة بحقوق وحريات ومصالح ومطالب ورؤى وقيم ومبادئ وأجندات النساء السوريات في جميع المجالات والمستويات والقطاعات، والمطالبة بإصلاح وتحديث وتنويع وتنسيق النظام السياسي والقانوني والاجتماعي والثقافي في سوريا بما يتوافق مع القانون الدولي والمعايير الحقوقية والجندرية.
  • تحفيز النساء على المطالبة بحقوقهن واللجوء للقضاء حال تعرضهن لأية انتهاكات حقوقية، والمطالبة بحقهن في الملكية والميراث، مع إيجاد مساحة مدنية آمنة لهن.

 

*كل ما ذكر في النص يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية