*دريد جبور

للإمبراطورية الفارسية بصمة مهمة بامتدادها التاريخي والحضاري وتمددها وصولاً إلى مصر واليمن، وعبر عدة قرون من تنافس وحروب مع البيزنطيين والرومان وغيرهم، في الوقت الذي كان فيه العرب في مجاهل القبلية والصراعات البينية، والانقسام في تبعيتهم لإحدى الامبرطوريتين المتنازعتين كوقود لهما.

بعد انتصار العرب وسقوط الإمبراطورية الفارسية تعمق العداء الخفي منه والمعلن مع العرب، وخاصة في العصر الأموي ذي الطابع العروبي، ليعود تأثيرهم وتغلغلهم، ولاحقاً سيطرتهم في العصر العباسي، واستمر النزاع بين المكونين على مدى ما تلاه من تاريخ غير مستقر للمنطقة وحتى اليوم.

من الدولة السلوقية في آسيا الوسطى وامتدادها إلى أنطاكية 141-323 ق.م، وصولًا إلى اسماعيل ميرزا (الشاه اسماعيل الأول 1524م)، الذي هزم القبائل الموجودة وأعلن تبريز عاصمته والمذهب الشيعي مذهباً رسمياً للدولة، مع استخدام القوة لفرض هذا المذهب على امتداد الأراضي الخاضعة له، وكان للضغط العثماني والحروب معهم في الشرق، وقبائل الأوزبك القوية في الشرق، تأثير مهم في توحيد إيران والتفاف شعبهاحول ملوك الصفويين والمذهب الشيعي.

في العام 1921-1925 نُصب رضا خان ملكاً (شاهاً) على إيران، بضغط ورغبة من رجال الدين، خوفاً من تضاؤل نفوذهم في حال إعلانها جمهورية. غزت بريطانيا وروسيا، إيران عام 1941، ونُصب ابنه محمد رضا بهلوي خلفاً لـ رضا خان.

أطاحت بريطانيا وأمريكا بحكومة رئيس الوزراء (محمد مصدق)، الذي أمم البترول الإيراني، وأراد القضاء على النفوذ الأجنبي في البلاد، وعاد الشاه إلى إيران.

قامت حكومة الشاه بلعب دور الشرطي لصالح الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، وتمثل ذلك بسياسة عدوانية تجاه دول الخليج مع احتلال للجزر (طمب الكبرى والصغرى وأبو موسى)، بعد فشلها بضم البحرين، وحذرت كل الدول العربية بتوصيف الخليح بالعربي ووصل عمق العلاقة مع أمريكا لدرجة أن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، أعطاهم شيكاً على بياض، لابتياع كل أنواع الأسلحة الأميركية، ما عدا القنبلة النووية، بالإضافة لمساعدة وإهداء إيران بذور مشروع نووي لأغراض سلمية.

مع الفترة النفطية لم يستطع نظام الشاه بلوغ التحديث الحقيقي، حيث فشلفي توجيه إيران نحو بنية حديثة في أغلب المجالات، رغم كل الدعم الأميركي والغربي له، مع اتساع الفجوة بين طبقات الشعب، وازدياد الاضطراب المجتمعي، وعدم تفهم الطبقة الحاكمة للموروث الديني، وقوة التيار الإسلامي الصاعد في المجتمع، ناهيك عن القمع السياسي بالبوليس السري، ما أدى إلى اندلاع احتجاجات، شارك فيها رجال الدين والمعارضة السياسية (شيوعيين وقوميين)، وفرض على الإيرانيين الانتماء إلى حزب كان قد شكله الشاه (البعث أو النهضة)، وإلزام الناس بدفع اشتراكات له، ما دفع لارتفاع أصوات عديدة في الغرب منددة بسياسات الشاه في مجال حقوق الإنسان.

احتفظت إيران وإسرائيل بعلاقة متميزة، حتى انتصار الثورة في إيران، رغم لعب كل منهما دوراً مركزياً كقوة إقليمية، تحول لاحقاً إلى عداء ضمن إطار التنافس على تكريس قوة كل طرف منهما، واحتمال كونه يشكل خطراً على الآخر، وسيكون أحد الأعمدة التي ستبني إيران سياستها الخارجية عليها، اعتماداً على التفارق الديني مع إسرائيل، وما يداعب المشاعر العروبية، حيث أن إيران دولة فارسية، وهذا ما تبناه الخميني باكراً وجعله المرتكز الأساسي، بالإضافة للعداء لأمريكا والغرب عموماً، والذي كان مقبولاً عند الكثير من الأحزاب اليسارية وعلى رأسها الشيوعية، ترجم ذلك سريعاً بإغلاقالسفارة الإسرائيلية وفتح سفارة فلسطينية، وحادثة احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية في طهران، كل ذلك صب في مصلحة الترويج لتصدير الثورة ومحاولة الهيمنة الإيرانية على منطقة الشرق الأوسط والخليج.

رافق انتصار الثورة في إيران خلل عميق في بنية الجيش الإيراني، المحسوب على الشاه، بالإضافة للخلافات العميقة بين الأفرقاء المنتصرين، والآثار الاقتصادية القديمة والآنية، القادمة قطعاً مع أي تغيير جذري بما فيها الاحتجاجات المستمرة في الشارع الإيراني، والخلاف الحاصل مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد حدث السفارة.

ترافق ذلك مع التصريح الدائم والعلني لإيران بتصدير ثورتها ومجيء صدام حسين إلى رأس لسلطة في العراق، وتخوفه والدول العربية الأخرى، من طروحات إيران والخطر الحقيقي لذي تشكله على كامل دول المنطقة والخليج خاصة، وأهمها الدول التي تحتوي على نسب متفاوتة من المسلمين الشيعة، مع إمكانية التأثير بهم إما بشكل مباشر أو بوحي من الثورة المنتصرة في إيران، يضاف إلى ما سبق المشاكل الحدودية السابقة بين العراق وإيران والتي تمتد منذ العهد العثماني، والتي تمثلت بعدة اتفاقات أولها 1913 وتاليها 1937 التي حددت الحدود في شط العرب وصولأ إلى عبدان (في حين أن إيران تنظر إلى الجنوب الشيعي في العراق كعمق روحي واجتماعي وديني)، وآخرها اتفاق الجزائر 1975، والذي تخلت فيه إيران عن دعم الأكراد في شمال العراق، مقابل اعتراف بغداد بهيمنة إيران مناصفة على شط العرب. كل ذلك دفع بالقيادة العراقية لقناعة أن اللحظة مناسبة بسبب من ضعف الجار وخطره، وربما بدفع دول إقليمية للبدء بالحرب، التي عرفت بحرب الخليج الأولى ولمدة ثمان سنوات،
وجاءت النهاية بعد مفاوضات شاقة في جنيف بقيادة الأمم المتحدة.
تم قبول اتفاقية إنهاء الأعمال القتالية في 20 حزيران 1988، كان الصراع بين إيران والعراق حرب استنزاف طويلة للبلدين، أسفرت عن خسائر مأساوية تمثلت بـ 200.000 شخص على الأقل من كل جانب، بما في ذلك العديد من المدنيين، وخسائر اقتصادية جمة، وقطعاً لم يكن الصراع ثنائي القطب، فقد تدخلت وتداخلت دولاً أخرى فيه أحيانا بشكل متناقض كفضيحة (إيران غيت)، حيث سهلت أمريكا لإيران وصول أسلحة من إسرائيل مقابل أموال ستذهب لجماعة الـ كونترا في نيكارغوا، وكان موقف الرئيس السوري حافظ الأسد الصامت أولاً والمنتقد تالياً والمتعاون أخيراً مع إيران، ضمن الفترة التي كانت العلاقاتلعراقية السورية سيئة، وأحداث الإخوان المسلمين تربك النظام السوري، بالإضافة لدعم العراق لها، والخلاف الطويل بين القيادتين السورية والعراقية، وليس بعيداً توقيع الرئيس المصري أنور السادات لاتفاق السلام مع إسرائيل، رغم أنه وبوساطة سورية، كانت ليبيا هي الدولة الأولى التي أرسلت صواريخ سكود إلى إيران، وتوقفت بعدما رفضت إيران قصف السعودية، ليتنامى بعدها الدعم السوري لإيران في مواجهتها مع العراق، وتتحول العلاقة إلى علاقة شبه استراتيجية، استطاع إدارتها حافظ الأسد بما يخدم سلطته، دون أن تشكل خطراً عليه أو أن تكون مستقلة في تحركاتها، فيما يفترض أنها منطقة سيطرته ، سواء في الداخل السوري أو في لبنان، مع بقاء علاقة جيدة مع باقي الدول العربية.

ترافق كل ما سبق مع أحكام المؤسسة الدينية بقيادة (الولي الفقيه) لكامل سيطرتها على كل مفاصل الدولة الإيرانية، واستبعاد كل من يمكن أن يعارض هذا التوجه الـ ثتيوقراطي، الشوفيني، الديكتاتوري، ورغبته الجامحة بالتمدد خارج الحدود، وتكريس إيران كلاعب إقليمي في المنطقة.

تى غزو الكويت وما تبعه من حرب الخليج الثانية وطرد صدام حسين وبداية الحصار على العراق، لتعيد لإيران إمكانية ترميم جراحها والانطلاق في مشاريعها التوسعية المعتمدة على أساسين، العداء لأمريكا وإسرائيل، وكونها دولة إسلامية (شيعية)، لكن وبوجود الشيعة في عدة بلدان، استطاعت بين الجانب الديني والدعم الاقتصادي، أن تجد لها موطئ قدم راح يتمدد بغياب مشروع عربي وآخر إسلامي سني، تركز فقط في الدعم والترويج الباكر لدول الخليج وعلى رأسها السعودية، للإسلام المتطرف الوهابي، كرد فعل ضد الشيوعية وبإيعاز أمريكي أولاً، وبتضاد مع الثورة الإسلامية الشيعية في إيران ثانياً، وبكل الأحوال تحول إلى تيار منبوذ وموصوف بالإرهاب، لا يستطيع أن يجد ما يبرر له استمرارية الحياة، على الأقل بشكل متماسك، وبتأثير مهم على الساحة الدولية، إلا كعذر للتدخل وصولاً إلى ترويج الإسلاموفوبيا بما يناسب أصحاب الهيمنة الاقتصادية على العالم، ما سهل كثيراً بروز نجم الإسلام الشيعي والثقة به أكثر على الصعيد الدولي لانضباطية تطرفه والتبعية الموحدة له، وبالتالي التعامل معه رغم العداء الواضح له.

غزو العراق، وسقوط صدام حسين والقوى العراقية المشاركة لأمريكا في إسقاطه، مع دعم إيراني والأخطاء التي ارتكبها المحتل (مقصودة أم لا)، أدت إلى تمكين إيران وأدواتها التي تنامت سريعاً من السيطرة التدريجية على العراق، وإنشاء مراكز قوى مهمة في الداخل العراقي تتبع مباشرة للسلطة الإيرانية.

عودة مشروع إيران النووي إلى الواجهة بمشاركة روسية، مع أن روسيا من أكثر الدول تضرراً في حال حصلت إيران على السلاح النووي، وستكون عند لحظة الحقيقة الأكثر ممانعة لها في الحصول عليه.

بالتزامن مع كل الأحداث كانت إيران تمضي قدماً في مشروعها الأخطبوطي بإنشاء مراكز قوى تابعة لها، أهمها في لبنان والعراق، ولاحقاً اليمن والبحرين، وبالطبع فقد امتدت أذرعها إلى كل أنحاء العالم كأفغانستان وإفريقيا، في الوقت الذي كان أغلب الحكام العرب يجتهدون بكيفية تكريس سلطاتهم وجمع أكبر قدر ممكن من الثروات المنهوبة من شعوبهم، وتعميق المشاعر الدينية الطائفية المقابلة، باعتبارها حائط صد ضد التوسع الشيعي الإيراني، وتمكين لسيطرتهم الداخلية، وعلى رأسها توجه النظام السوري أكثر فأكثر نحو الحماية الإيرانية مع شخص رئيس وارث.

كان اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري عام 2005، وتوجه النظام السوري نحو إيران أكثر فأكثر لحمايته، مع وجود رئيس أوضحت مجريات الأحداث أن كل همه البقاء في السلطة ونهب البلد، بالإضافة إلى (انتصارات) حققها حزب الله اللبناني، في حروبه المتتالية مع إسرائيل، ما رفع من أسهم إيران في كل المنطقة، ومكن حزب الله من توسيع سيطرته على لبنان، وتغلغل أكبر لإيران في سوريا، ولكنه زاد خوف دول الخليج والدول العربية الأخرى منها، واعتمادها أكثر على أمريكا والغرب.

التحول الأهم كان مع وصول باراك أوباما إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة، ورغبته العارمة بإبرام معاهدة مع إيران، حتى بكلفة بغض الطرف عن مخطط إيران بالتمدد في المنطقة، ومعه اندلاع الربيع العربي، وخاصة في سوريا واليمن، حيث يشكلان موقعين هامين للمخطط الإيراني، وبالإضافة إلى أن الغرب ودول المنطقة لم يكن ليناسبهم انتصار أو تحول آمن إلى الديموقراطية في دولة مفصلية كسوريا، بما يعنيه من امتداده إلى كل دول المنطقة، والرابح والمشارك، ولو بشكل غير مباشر، كانت إسرائيل.

تدخلت روسيا مباشرة وعلنية وبفاعليه قصوى، بعد فشل إيران وأذرعها بالدفاع عن النظام السوري، ولم يكن ذلك ضد رغبة أمريكا وإسرائيل، وبدأت رحلة الانتقال من التنسيق الإيراني الروسي، إلى تعارض المصالح والوسائل والأهداف.

مع استلام دونالد ترمب لرئاسة أمريكا واتباع سياسة مختلفة في طريق فرض نفوذ بلاده، ومنها إلغاء الاتفاق النووي  مع إيران، وإعلان رغبته بتحجيم الحلم الإيراني (وليس اسقاطه لما فيه من فائدة كخطر داهم تستغله في زيادة الهيمنة على مقدرات الخليج)، بدأت مرحلة جديدة ليست أقل تعقيداً، ولكنها ستنعكس في بعضها إيجابيا على الحالة السورية، تجلت في تصعيد أمريكا للحصار على نظامها، وعلى الأطراف المساعدة له، إضافة لزيادة ملحوظة في القصف الإسرائيلي على مواقع لحزب الله والتجمع العسكري لإيران وميليشياتها، وليس آخرها اغتيال قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني مطلع العام الحالي.

إن معايير السياسة الإيرانية، وبحكم بنيتها ستؤدي دائماً إما إلى الصدام مع محيطها أو إلى حالة من التكيف بتغذية داخلية فقط، في الأولى أن تكون الدولة الثيوقراطية الشوفينية الديكتاتورية مستمرة، وجب أن تخلق الخطر الخارجي أو أن تكونه، وفي الثانية تنتهي غالباً بالفشل، رغم الهدف الذي يجمع كل مكونات الطبقة السياسية الإيرانية بالحفاظ على الدولة الإسلامية.

إن التمكن التدريجي لروسيا في الشأن السوري، وبموافقة لا تخلو من منغصات وشروط من قبل أمريكا، ضمن حاجتها لاستقرار يبنى على أساس حل سياسي مع إعادة إعمار مكلفة لا تستطيع روسيا القيام بها، من أجل تحصيل وتكريس مكاسب تدخلها، يعني في ما يعنيه تقليص الدور الإيراني وانحساره في سوريا كبداية، لهذا فإن أي حل قابل للحياة سيكون الخاسر الأكبر فيه هو الطرف الإيراني، ليس طبعاً بدون محاولة لتحصيل شيء أو العرقلة، والتي قد تكون صاخبة جداً.

الطرف الإيراني رغم كل ما قيل عن تمكنه في سوريا لم يستطع اختراق المجمتع وهناك رفض علني كبير له، وآخر صامت لجعله المثل الممكن، أو ما يشبه تحكم حزب الله في لبنان، والتشيع (الإيراني الصفة) لم يحرز أي نجاحات مهمة أو استراتيجية، والآني منه انتهازي مصلحي ظرفي، يسقط ببساطة أمام أي ضعف قادم لهذا المحور.

في الحالة السورية حتى الآن مع التوافق على عدم وجود منتصر قطعي تحت اسم لا حل عسكري للمشكلة، حتى لو توقفت أو انتهت معارك الجغرافيا، يبقى هناك احتمالان أساسيان، إما أن تستمر الحرب وعدم الاستقرار إلى ما لا نهاية، أو أن تجبر الظروف أغلب اللاعبين إلى التوصل لحل ما، وطبعاً هذا الحل أياً يكن، ليس من أولوياته مصالح الشعب السوري، إلا كعرض جانبي وبما يتقاطع مع المصالح التي سيتفق عليها.

إن الوصول إلى حل سياسي، حتى إن لم يكن مثالياً، سيخلق ثغرة مهمة (قابلة لتحطيم السد) وبضمانات دولية، في جسد السلطة ونظامها الاستبدادي، وحسب قرارات الأمم المتحدة، عدا عن أنه يبعد شبح هيمنة الإيراني وسيطرته على سوريا (وهو الأعقد بين التدخلات)، كإحدى النتائج باتجاه واحد لهذا الحل، وربما مع جائزة ترضية ذات طابع اقتصادي تعويضي، فإنه يوفر على السوريين الاستمرار بدفع فاتورة الصراع على الأرض السورية، بوقود من السوريين وعلى حساب حاضرهم ومستقبل شعبهم ووطنهم.

في حال استمرت السياسة الحالية على رأس السلطة في أمريكا، فإن النفوذ الإيراني مرشح للانحسار، بما يبقيه ورقة وليس لاعباً أساسياً بين الكبار، وسيصعب كثيراً التحدث عن هلال إيراني (شيعي) في القادم من اللأيام.

سيبقى الشعب السوري هو الخاسر الأكبر مع أمل بأن ينهض برؤية وفعل نحو المستقبل.

*المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة