يوم إحياء ذكرى ضحايا جميع الحرب الكيميائية – 29 نيسان

تنوعت الأساليب والقتل واحد، ومازال الإنسان يبحث عن طرق جديدة ليقتل بها أبناء جلدته، لكن يبقى استخدام السلاح الكيماوي في هذه المقتلة هو الأشنع والأسوأ.

تم في عام ١٩٢٥ في جنيف، توقيع بروتوكول حظر استخدام السلاح الكيماوي في الحروب بين الدول، حيث استخدم هذا السلاح في العديد من الحروب، على مر التاريخ، ونظراً للنتائج الكارثية لهذا الاستخدام، لاقى البروتوكول ترحيباً من معظم الدول، ومن ثم اعتمد مؤتمر نزع السلاح، اتفاقية الأسلحة الكيميائية في عام ١٩٩٢، و فتح باب التوقيع على هذه الاتفاقية في باريس، في ١٣ كانون الثاني ١٩٩٣، و بدأ العمل بها في ٢٩ نيسان عام ١٩٩٧. انضم للاتفاقية ١٨٩ دولة، أي ما يقارب ٩٨% من بلدان العالم، من الدول التي لم توقع على الاتفاقية (أنغولا، بورما، مصر، إسرائيل، كوريا الشمالية، الصومال، سوريا). ولعل من أشدّ المجازر التي سببها السلاح الكيماوي، إيلاماً، كانت تلك التي وقعت خلال الحرب العالمية الأولى، والتي استخدم بها طرفا الصراع مواداً كيماوية كانت توضع في ذخائر عادية، كالقنابل اليدوية وقذائف المدفعية، ونتج عنها نحو مائة ألف حالة وفاة، ومليون إصابة. 
وبالإضافة لبريطانيا التي استخدمت هذا السلاح ضد العراقيين في عشرينيات القرن المنصرم، واليابان ضد الصينيين بين عامي ١٩٣٧-١٩٤٢، استخدمته أمريكا في كوريا وفيتنام، ونظام صدام حسين الذي ارتكب مجزرة حلبجة في ١٦ آذار عام ١٩٨٨، ضد مدينة حلبجة الكردية، حيث استهدفها بالطائرات انتقاما منها لدورها في الحرب مع إيران، والتي تسببت بقتل ما يزيد عن خمسة آلاف شخص.

في سوريا، اندلعت الثورة في آذار عام ٢٠١١، وسارع النظام لقمعها مستخدماً كافة الأساليب الوحشية، على مرأى ومسمع العالم، حيث لاقت جرائم الأسد، بحق الشعب السوري، شجباً دولياً، لكن دون اتخاذ أي إجراء من شأنه إيقاف هذا السفاح عن ارتكاب جرائمه، ليظهر الرئيس الأمريكي حينها، باراك أوباما، معلناً بداية الخطوط الحمراء للنظام السوري قائلاً “الكيماوي خط أحمر”.
كنت في سوريا أراقب تصريحات أوباما وأستهزئ بها، كجميع أفراد الشعب السوري الثائر، وكأن مفاد تصريحه هو رسالة للأسد تقول، بإمكانك قتل السوريين بالطريقة التي تريد، ماعدا استخدام الكيماوي. 
أذكر أحاديث الناس في الغوطة الشرقية عن إجرام و بطش الأسد، ولكن كان هنالك شبه إجماع على أن الأسد لن يستخدم هذا السلاح، خاصة أن الغوطة لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن العاصمة دمشق، مستشهدين باحتلال أمريكا للعراق عام ٢٠٠٣ تحت حجة امتلاك نظام صدام حسين للسلاح الكيماوي وتطويره، وهو الذي ارتكب مجزرة حلبجة، والتي كانت الحجة التي تذرع بها الرئيس الأمريكي، آنذاك، جورج بوش الإبن، في مجلس الأمن. 
وفيما بعد أدركت أن تصريح أوباما كان بمثابة منح النظام رخصة لقتل أكبر عدد من السوريين، وباستخدام السلاح الكيماوي. 

في صبيحة يوم الأربعاء، الحادي والعشرين من شهر آب عام ٢٠١٣، استيقظ أهالي الغوطة الشرقية على أكبر مجزرة شهدتها منطقتهم، حيث استهدف النظام المنطقة بأربعة صواريخ محملة برؤوس تحوي مواد كيماوية، راح ضحيتها ما يقارب ١٤٠٠ شهيد، كلهم عائلات مؤلفة من أطفال ونساء وشيوخ وشباب، كانوا نائمين في منازلهم ولم يستيقظوا بعدها. 
اختنقوا وماتوا بصمت دون أن يساعدهم أحد، لم يكن لديهم فرصة ليهربوا أو يختبئوا، حيث تسللت تلك الغازات القاتلة إلى كل مكان، تسربت من شقوق الأبواب والنوافذ لتقتل الناس الذين اختبأوا خلفها لتحميهم من قذائف الموت. 
كان مشهداَ من مشاهد يوم القيامة، أذكر حالة الهلع والذعر التي سادت بين الناس، لا يوجد إبر أتروبين كافية، والمنطقة محاصرة، وعائلات بأكملها قضت ولم يبقَ منها أحد، حتى المسعفين الذين ذهبوا لدفن الموتى، عاد قسم منهم مصاباَ ومن ثم فارق بعضهم الحياة. زملكا – عربين – عين ترما، ودعت أهلها وبقية أهل الغوطة وقفوا ليدفنوا الشهداء.
خلال هذا الهجوم كانت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة متواجدة في دمشق للتحقيق في ضربات سابقة قام بها النظام، حيث لم يكن الهجوم الكيماوي على الغوطة هو الهجوم الأول الذي استخدم فيه النظام السوري السلاح الكيماوي، فلقد استخدمه لأول مرة في عام ٢٠١٢. وعند دخول الفريق المختص إلى الغوطتين الشرقية والغربية وإثباته استخدام النظام للسلاح الكيماوي في إبادة السكان، توقع السوريون إنهاء الأسد وإحالته إلى محكمة العدل الدولية، ولكن كانت روسيا والصين أقرب إليه من بقية دول العالم، حيث استخدمتا الفيتو على عدة مشاريع لقرارات تدين الأسد، وبقيت تصريحات أوباما مجرد كلام وخطوط حمراء لا قيمة لها.
لا تفارق ذاكرتي صور شهداء الكيماوي، كانت المرة الأولى التي أرى بها أجساد الشهداء كاملة غير مقطعة ولا مشظاة بفعل القذائف، جثة كاملة مخنوقة فقط. قتلهم الكيماوي بصمت وبسرعة، انتشر هذا الغاز القاتل وحصد أرواح أكبر عدد من الناس دون أن يستيطع أحد الفرار منه، فمن يطاله هذا الغاز سيموت حتماً. كان سلاحاً ناجعاً بيد نظام مجرم، وكونه فلت من العقاب، عاد واستخدمه في مجازر أخرى مثل، خان شيخون ودوما وغيرهما.
و تنوعت أسلحة الكيماوي التي استخدمها النظام، مثل غاز السارين ومن ثم الكلور الذي كان يغير من تركيزه حسب الجريمة التي يريد أن يرتكبها.
الطفل وائل (اسم مستعار) من بلدة الشيفونية في الغوطة الشرقية، والذي قتل بغاز الكلور الذي استخدمه النظام عند اقتحام الغوطة الشرقية عام ٢٠١٨، بقي ممدداً على الأرض أمام الجامع الكبير في مدينة دوما، خمس ساعات بانتظار الدفن، بعد أن جاءت به فرق الدفاع المدني، ثم دفن دون أن يعلم به أحد. 

و اليوم مازال الأسد موجوداً، دون أن يحاسب على جرائمه ولا أن يدان على استخدام الأسلحة المحرمة دولياً في مجازر الإبادة الجماعية التي قام بها، ومازالت الأسلحة الكيماوية بحوزته، على الرغم من تأكيد جميع فرق الأمم المتحدة التي دخلت سوريا، على استخدامه للسلاح الكيماوي في تلك المجازر. 
وفي ٢٩ نيسان، يوم إحياء ذكرى جميع ضحايا الحرب الكيميائية، لنرفع صوتنا في هذا العالم الصامت عن جرائم الأسد في سوريا، ولنعد إلى الأذهان صور شهداء مجازر الكيماوي، مطالبين بمحاسبته، شأنه شأن من سبقوه بارتكاب جرائم الحرب. 
سيبقى شهداؤنا مختنقين في قبورهم، حتى معاقبة من قام بارتكاب هذه الجريمة بحقهم، ومن ساعده فيما بعد على طمسها وإخفاء معالمها.

الكاتبة: بيان ريحان Bayan Rehan عضوة الحركة السياسية النسوية السورية.