12 عاماً ولا جديد في ملف الإخفاء القسري

 

*منى عبود

 

المصطلح وتصويبه في واقعنا السوري 

الاختفاء القسري مصطلح متداول في سوريا منذ عام 2011 على نطاق واسع جداً، لكننا وبعد جهود كبيرة مبذولة، وضلاعة باللغة العربية غيرنا كمنظمات وناشطات/ين نعمل على هذه القضية المصطلح والترجمة إلى الإخفاء القسري، فالمختفي قد يكون رحل واختفى بملء إرادته الحرة وقرر أن يبتعد عن حياته ليبدأ في مكان آخر، لكننا في سوريا نختفي رغماً عنا ويختفي كل أثر لنا لذلك كان إخفاء وكنا مخفيات/ين لا مختفيات/ين.

 

ضحايا الإخفاء القسري بحسب منظمة العفو الدولية 

ضحايا الإخفاء القسري هم أشخاص اختفوا فعلياً بعيداً عن أحبائهن/م ومجتمعهن/م. ويختفون عندما يقبض عليهم مسؤولو الدولة (أو أي شخص يعمل بموافقة الدولة) من الشارع أو من منازلهن/م ثم ينكرون ذلك الأمر، أو يرفضون الكشف عن مكان وجودهن/م. ففي بعض الأحيان، قد يقوم بعمليات الإخفاء عناصر مسلحة غير تابعة للدولة، مثل جماعات المعارضة المسلحة. والإخفاء يعد دائماً جريمة بموجب القانون الدولي.

 للإخفاء القسري معايير دولية وضعتها الأمم المتحدة حيث تم الاتفاق على وثيقة اعتمدت عام 2010 من قبل الأمم المتحدة لحماية الأشخاص من الإخفاء القسري تضمنت أكثر من 22 مادة، ضرب بها النظام السوري عرض الحائط، فأي معايير وأي مواد يمكن أن يمتثل لها النظام في سوريا ليوقع نفسه في التهلكة.

 

تاريخ الإخفاء القسري في سوريا 

مع بداية تولي حزب البعث العربي الاشتراكي السلطة في سوريا؛ ومع حركته التصحيحية التي قادها حافظ الأسد؛ بدأت سوريا تتعرف على الإخفاء القسري الذي ارتبط بالسياسة والأحزاب السياسية المعارضة.

بداية من اعتقال وإخفاء الضباط الذين شاركوا الأسد في سيطرته على السلطة، امتداداً لكل من عارضه وعارض حكمه. ولاننسى أن الإخوان المسلمين كانوا يسبقون تولي الأسد السلطة ووجودهم ترافق مع اتحاد الدولتين في مصر وسوريا، لكنهم لم يشكلوا خطراً حقيقياً يستوجب إخفائهم وإعدامهم وملاحقتهم إلا بعد أحداث حماة في الثمانينيات من القرن الماضي.

منذ ذلك التاريخ أصبحت سوريا دولة تقول لا لحقوق الإنسان بكل تفاصيلها، فلا يحق لك الحديث في السياسة، ولا عن السياسة في أي من مجالات الحياة. 

فإن كنت مسلماً؛ ستتهم أنك إخوان مسلمين ويتم اعتقالك وإخفاؤك لسنوات وعقود، وإن كنت علمانياً ستكون من الأحزاب اليسارية المعادية وتتعرض للملاحقة والاعتقال والإخفاء القسري، لا سلطة في سوريا تحميك من أن تختفي عن وجه الأرض سوى التبعية لحزب البعث العربي الاشتراكي، أي حسب المثل القائل “المشي جنب الحيط”.

آلاف المعتقلات/ين المتهمات/ين بانتمائهن/م لأحزاب سياسية مختلفة، تبعها في التسعينات اتهامات جديدة تتمحور حول الفكر السلفي الجهادي والإرهاب (يحمل فكر القاعدة الإرهابي)، كانت هذه تهمة أحد الذين سمعت قصصهم في مدينة دير الزور.

وأذكر حين كنتُ معتقلة في فرع الأمن العسكري في دمشق كانت هناك معتقلات/ين مخفيات/ين من دول عربية وأجنبية. منهم/ن اللبناني/ة والأردني/ة والليبي/ة والفلسطيني/ة. ولعل أبرز من رسخ في ذاكرتي ذلك الرجل اللبناني الذي قضى حوالي 24 عاماً في الفرع دون أن يعرف أحد أفراد أسرته عنه أي شيء. ربما يأسوا من وجوده على قيد الحياة وربما لا يدركون أنه مختفٍ قسرياً لدى سلطات النظام في سوريا. 

لكن الأمور أصبحت أكثر سوءاً منذ اندلاع الثورة السورية، فالأفرع الأمنية التي كانت تتفنن في تعذيب وتغييب السياسيات/ين السوريات/ين؛ أصبحت تغيب أفراد ومجموعات من المجتمع السوري دون النظر إلى قومية أو طائفة أو عمر أو جنس. كان يكفيهم أنك من مدينة أو بلدة ثائرة ضد النظام حتى يتم اعتقالك وتغييبك لسنوات وربما إلى الأبد.

 

الإحصاءات والأرقام والتبعات الجندرية 

حسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” أن عدد المختفيات/ين قسراً في سوريا منذ عام 2011 إلى عام 2022 بلغ 111907 مختفي/ة عند جميع أطراف النزاع في سوريا، وللنظام حصة الأسد حيث بلغ عدد المخفيات/ين لديه 95696. 

لكن السؤال الذي يتبادر إلى ذهننا جميعاً، هل هذه الأرقام صحيحة؟ وهل جميع اللواتي/الذين تم إخفائهن/م قامت الشبكة السورية أو غيرها من منظمات التوثيق بتوثيقهم؟ أيضاً هل شهادات الوفاة التي أصدرها النظام في مناطق ومدن سورية مختلفة، بالإضافة لصور وتوثيقات قيصر، ضمن هذا العدد؟

هذا يقودنا إلى أن هذه الإحصاءات هي أعداد تقريبية لما تمكنت منظمات التوثيق بكل جهودها من الوصول إليه.

فهناك العديد من العائلات وأهالي المعتقلات/ين يرفضون توثيق إخفاء بناتهم وأبنائهم، خوفاً عليهم من تبعات التوثيق. حيث يصر النظام على استعمال الترهيب والتخويف لأهالي المعتقلات/ين الذين يحاولون بجهد البحث عن ذويهن/م لدى الشرطة العسكرية أو محكمة الإرهاب أو حتى بالأفرع الأمنية الكثيرة المنتشرة على امتداد الخريطة السورية.

كما أن النظام قام بتغييب عائلات بأكملها وأخفاهم قسراً، منهم عائلة الطبيبة رانيا العباسي وأفراد أسرتها جميعاً، الذين اختفوا منذ عام 2014 إلى يومنا هذا بلا أي دليل عنهم.

وكان للنساء كذلك نصيباً كبيراً من عمليات الإخفاء القسري، فقد بلغ عددهن في إحصاءات “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” 6642 منهن 5724 مختفية لدى النظام السوري. 

وكثيراً ما تكون النساء رهائن لدى النظام لعمليات التبادل والمصالحات سابقاً مع الفصائل الإسلامية التي تسيطر على مناطق أخرى مختلفة من سوريا، فالضغط الذي يستخدمه النظام على الفصائل هو النساء اللواتي يأخذهن من منازلهن على شكل رهينة دون أن يتم توجيه أي تهم لهن. حدث ذلك كثيراً لنساء اعتقلن بسبب أولادهن الذين ينتمون لفصائل مسلحة أو نساء ينتمين لمناطق ثائرة وقد يكون إخفائهن لأشهر وربما سنوات في محاولة من النظام للدفع بعمليات التبادل إلى الأمام، ولاننسى أن الفصائل التي تصر على أن يكون التبادل على النساء هي من شجعت بقصد منها أو بدون قصد على زيادة اعتقال النساء وإخفائهن قسراً دون أي محاكمة عادلة وربما دون تحقيق أو ملف لدى الأفرع الأمنية إنما يتم إخفائها في زنزانة بالفرع إلى أن تتم عملية التبادل. 

أذكر أن سيدة كانت في فرع أمن الدولة حيث التقيتها عام 2014 بقيت لأكثر من سنتين، رغم أنها تحمل إخلاء سبيلها من المحكمة، لكنها رهينة مبادلة طال انتظارها.

ولم يكن النظام هو القوة الوحيدة في هذه الاعتقالات فالقوى المسيطرة في سوريا لها أيضاً نصيب كبير في عمليات الإخفاء القسري، حيث كان هناك آلاف المخفيات/ين لدى تنظيم الدولة (داعش) الذين ما زالوا مجهولي المصير رغم انتهاء وجود الدولة الإسلامية، دون أي تفسير يذكر من الإدارة الذاتية التي سيطرت على معظم المناطق التي كانت تحت سيطرة الدولة الإسلامية.أو القوات العراقية أو قوى التحالف التي تشارك الإدارة الذاتية في السيطرة  فأين المعتقلات/ين اللواتي/الذين كانوا في سجون ومقرات الدولة الإسلامية في الرقة وديرالزور وريفها وريف حلب ومدينة الموصل العراقية؟

ففي تقرير نشره “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، تحت مسمى “إحياء الأمل” تحدث عن العثور على حوالي ستة آلاف جثة في عشرات من المقابر الجماعية في شمال شرق سوريا. 

لكن هل هذه المقابر هي لمفقودات/ين ومخفيات/ين لدى التنظيم، الذين يفوق عددهم الـ 15 ألف مخفي/ة حسب إحصاءات الشبكة السورية والمركز السوري للعدالة والمساءلة؟

ورغم اختلاف الأزمنة والسيطرة إلا أن الفصائل المسلحة في سوريا لا تختلف كثيراً عن داعش والنظام السوري في طرق الاعتقال والإخفاء القسري، فلدى هيئة تحرير الشام أفرعها الأمنية المختلفة وسجونها السرية أيضاً. 

كما تحملت النساء في سوريا الكثير من الضغوط سواءً كنَّ معتقلات ومخفيات أو أمهات وزوجات مخفيين، هذا جعل المرأة السورية هي المتأثرة الأكبر فيما يخص جرائم حقوق الإنسان، وخاصة جريمة الاعتقال والإخفاء القسري، ورحلات البحث عن المخفي/ة، وتبعات الحياة في ظل ظروف معيشية صعبة. فالمرأة هنا لا تستطيع أن تقوم بعمليات حصر الإرث ولا السفر ولا بأي من المعاملات بسبب غياب رب الأسرة.

ولا تختلف القوى والفصائل المسيطرة الأخرى عن النظام في اعتقال النساء أيضاً رغم التباين الكبير في الأعداد، فهناك 255 امرأة مخفية قسراً لدى تنظيم داعش، وأكثر من 517 امرأة لدى بقية الفصائل ومن ضمنها الجيش الوطني، ولا ننسى قوات قسد والإدارة الذاتية وهيئة تحرير الشام أيضاً، بحسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”. 

ورغم أن أعداد الرجال تفوق بأضعاف كثيرة عدد النساء لكن الأمر لا يقاس بالأرقام، فالقضية هنا تقاس بالبعد الجنساني لها، وما يخلفه الإخفاء القسري للذكور من تبعات اقتصادية واجتماعية وقانونية كبيرة على النساء. فلا يخفى على أحد ما تعيشه العائلة من آثار نفسية كبيرة نتيجة للإخفاء الذي يتعرض له أحد أفرادها وخاصة من النساء. 

أم فاطمة هي خير دليل على ذلك، ضمن حديث معها (خاص بالحركة)فالسيدة التي  فقدت ابنتها فاطمة في إحدى المداهمات العشوائية على قريتهم، حيث قيدت ابنتها وزوجها وجميع أفراد عائلة الزوج إلى مكان مجهول منذ عام 2014 في اقتحام لقريتهم في ريف حلب، ورغم مرور تسع سنوات على إخفاء فاطمة وزوجها وطفلها الذي كانت حاملاً به، ما زالت الأم بانتظار ابنتها وحفيدها، وما زالت تتحدث عن حمل فاطمة وكيف أنها لن تكون معها حين تحين موعد الولادة. وفي حديثي مع شقيق فاطمة قال إن أمه ما زالت تحادث ابنتها وتتخيلها جالسة أمامها في أحيان كثيرة لتسألها عما جرى معها.

تلك قصة من آلاف القصص التي جرت. الكثير من الضغوط النفسية على أهالي المخفيات/ين والمعتقلات/ين الذين يرفضون تصديق أن بناتهم وأبنائهم وأحبتهن/م قد ماتوا تحت التعذيب، أو أنهن/م ربما لم يعودوا موجودين في الحياة. 

ورغم عمل الكثير من المنظمات على الجانب النفسي للناجيات/ين من الاعتقال وذوي المخفيات/ين قسراً ا، إلا أنها مازالت عاجزة عن تقديم المساعدة لآلاف الأسر التي فقدت أحبتها في الاعتقالات العشوائية لدى جميع الأطراف في سوريا. 

فالآثار النفسية والاجتماعية التي تتبع إخفاء أحد أفراد العائلة لا تتوقف عند الأمل أو فقدانه، إنما تتعداه لعمليات بحث تستنزف الطاقة دون جدوى، ومجتمع يحارب المرأة التي تحاول أن تجد متنفساً للحياة مع أطفالها في ظل عدم وجود معيل لها، وفي ظل عدم قدرتها على تحصيل أي حق قانوني وتصبح الزوجة هي الطرف الذي عليه أن يؤمن احتياجات عائلتها دون شكوى.

 

 مسؤولية المعارضة السورية والمنظمات الحقوقية السورية في قضية الإخفاء القسري

ما زال الائتلاف السوري وحكومته المؤقته عاجزين عن تقديم أي مساعدة تذكر لذوي المخفيات/ين قسراً، إن كان في عمليات البحث أو في جبر ضررهم وإعانتهم نفسياً واجتماعيا واقتصادياً، فالاكتفاء بمناقشة الملف في كل مؤتمر تعقده عضوات وأعضاء المنصات المعارضة السورية بين جنيف بكل سنواته، وإصراره على أن الملف فوق تفاوضي وهو ملف إنساني إلا أنه بقي دائماً أساساً في التفاوض مع النظام  وأستانة بكل مؤتمراته لم ينتج عنها سوى المزيد من عمليات التبادل التي أدت إلى المزيد من عمليات الاعتقال والإخفاء القسري، وخاصة للنساء. 

ورغم تشكيل روابط للضحايا والجهد المبذول من قبلها ومن قبل المجتمع المدني السوري إلا أن الملف سيبقى عالقاً وشائكاً يبحث عن حل سياسي، وهذا الحل يتطلب تدخل الحكومة السورية والنظام السوري فيه، مما يعني اعتراف النظام بكل هؤلاء الآلاف الذين تم توثيقهم من قبل المنظمات الحقوقية كمخفيات/ين قسراً، مما يضعه تحت المسائلة القانونية الدولية لانتهاكات حقوق الإنسان.

وبما أن النظام في سوريا لن يكون متعاوناً فسيكون دور المنظمات الحقوقية السورية والدولية هو المزيد من عمليات التوثيق فقط دون أي تقدم في هذا الملف. مما يدفع الكثير من أهالي وذوي الضحايا من المخفيات/ين قسراً لفقدان الثقة بهذه المنظمات، وهذا ما أوضحه بعض الأهالي الذين باتوا يرفضون توثيق اعتقال بناتهم وأبنائهم لشعورهم بعدم الجدوى، بالإضافة لعامل الخوف الذي ما زال مسيطراً على معظم الأهالي. 

ودولياً؛ كان دور آليات الأمم المتحدة شبيهاً بما تفعله روابط ومنظمات الضحايا وهو التوثيق، دون أي تطور يذكر، ورغم وجود اللجنة الدولية للتحقيق والتوثيق التابعة للأمم المتحدة والآلية الدولية المستقلة؛ إلا أنها ما زالت قاصرة عن محاسبة النظام وإجباره على أن يكون شريكاً في إيجاد حل لملف المخفيات/ين قسراً رغم أنه المسبب الرئيسي. 

ورغم تشكيل آلية جديدة متخصصة بالمعتقلات/ين تعسفياً و بالمخفيات/ين قسراً؛ إلا أن هذه الآلية أوضحت منذ البداية أنها لن تكون آلية للمحاسبة وإنما هي لكشف مصير المفقودين والمفقودات ، دون ذكر ماذا بعد كشف المصير؟ وماهي إمكانية تعاون النظام السوري وبقية أطراف النزاع في سوريا مع هذه الآلية؟ وهل يمكن أن يكون هناك خطوات ووسائل ضغط ستتبع لاحقاً بعد عمليات كشف المصير، كالضغط على روسيا حليفة النظام الرئيسية مثلاً كي يتم الإفراج عن المخفيات/ين؟ 

أسئلة كثيرة تبقى معلقة في ملف هو الأخطر والأعقد على مستوى الثورة السورية بل وقبل اندلاع الثورة السورية بسنوات. 

 


*كل ما ذكر في المقال يعبر عن رأي الكاتبة، ولا يعبر بالضرورة عن رأي الحركة السياسية النسوية السورية